ثَوْبُ الرِّياء يَشِفُّ عَّما تَحْتَهُ ¿¿ ¿ فَإذا التَحَفْتَ بهِ فإنّك عَارِي والهُوْنُ فِي ظِلِّ الهْوَيْنَا كَامِنٌ ¿¿ ¿ وَجَلالَةُ الأَخْطارِ في الإِخْطَارِ «أبو ذؤيب» لكي نكون منصفين، فإننا جميعًا نسعى بشتى السبل لننصح الناس حول كيفية عيشهم. فنحن نملك آراء صارمة، ونعتقد أن على الآخرين اتباعها، أو التفكير بنفس الطريقة التي نفكر بها. ومعظمنا يشعر بالارتياح عند القيام بنصح الآخرين، بغض النظر عن مستوى اهتمام الآخرين بسماع نصائحه. ونحن شعب تربينا على الإفتاء (طلبًا وإعطاءً) في كل شيء. فربما لدينا اليوم أكثر من عشرة ملايين ناصح ومفتٍ يهدون نصائحهم وآراءهم دون أن تطلب منهم. تقتني سيارة جديدة، فيبادرك أحد زملائك بالقول: لو كنتُ أعلم مسبقًا بنيّتك لشراء سيارة، لكنت نصحتك بشراء سيارة مختلفة، هذه السيارة لا تصلح لك. ولا يتورع أحدنا أن يسدي نصائح بأثر رجعي. فقد يروي أحدهم من باب التندر حادثة قديمة طريفة حصلت له، مثل اصطحابه خطأً - وقت سفره - لجواز سفر زوجته بدلًا من جواز سفره هو. ولكن الناصح يقاطعه قبل أن يتم قصته، ويعطيه إرشادات في كيفية حفظ وثائق السفر، والخطوات التي كان يجب عليه اتباعها لتحاشي وقوع مثل هذه الحادثة. وتجلس في مجلس، فينهض لك شاب نصف متعلم بعمر ابنك، ينصحك مستعينًا بنصوص الآيات والأحاديث، ويلقنك دروسا في الصلاح والاستقامة وبر الوالدين، والمجلس منصت كله كأن على رؤوسهم الطير. ولا تنتهي تلك العاصفة من النصائح إلا عند مجيء الطعام، ليقول الجميع جزاك الله خيرًا، ولسان حالهم يقول ربما إنك أحوج إلى تلك النصائح منا. تفتح هاتفك الجوال بعد انقطاع وجيز، فإذا هو مليء بالرسائل الركيكة المليئة بالأخطاء اللغوية، ولا تخلو أبدًا من تلك التي تنهاك عن بعض المعاصي، وتعظك ببر الوالدين، أو تجيّش المشاعر الطائفية بأخبار ملفقة، أو تقترح علاجًا شعبيًّا يشفي من الجذام، والسرطان، والسعال، والسعار (ولكنه بالتأكيد لا يشفي من الحمق والتخلف). وغالبا ما تكون تلك الرسائل بصوت وصورة صاحبها التي تملأ الشاشة. وهو يأمرك بنشرها إلى أكبر عدد ممكن لتؤجر، وإلا كنت من الخاسرين! وأنت منهمك في وسط المحاضرة، يدلف طالبٌ متأخرًا، وبدلًا من أن ينسرب صامتًا وبهدوء إلى مقعده فلا يشوّش على زملائه، تراه يجأر بالسلام بصوت مرتفع على ا لطلاب، فيرد عليه الجميع. تلتقط أنفاسك محاولًا تجميع أفكارك لمواصلة الشرح، وهو يجلس منتفخًا يكاد يلقي عليك خطبة بأدب رد السلام. تذهب إلى المسجد لتصلي العصر، فيكون أحدهم بجانبك. لا تستطيع الخشوع أثناء الصلاة لأنه يرعد واقفًا كالمرجل الذي يغلي بالماء. يسجد الإمام فتهوي إلى الأرض لتفاجأ بأن ليس هناك مكان تحشر فيه أنفك على الأرض، فقد كوّع الرجل بيده حتى سد عليك المكان. يسلِّم الإمام، فيبادرك هذا بوجه عابس بأنك أخطأت في صلاتك حيث لم تضم يديك إلى صدرك بعد الرفع من الركوع! تحضر اجتماعًا لتقييم أداء الأساتذة في جامعتك، فتتوقف الجلسة لصلاة المغرب. يتقدم أحدهم فيؤم الجمع وتخشع لتلاوته الجميلة. تعاود اللجنة اجتماعها بعد الصلاة، ويُعطى الدور في الكلام لهذا الشخص ليشرح مبررات تقييمه المرتفع جدًا (درجة متميز) لأحد الأساتذة في كليّته، رغم ضعف أدائه في التدريس والبحث. يبدأ حديثه بخطبة عن العدل والإنصاف، ثم يتفاجأ الجميع بتملص الرجل المتدرج من التقييم الذي أعطاه هو للأستاذ، ويأتي بنصوص متعددة من ملاحظات الطلاب السلبية المكتوبة حول أداء ذلك الأستاذ، بطريقة قادحة وجارحة، دون تعليق منه. وكأنه يقول إن هذا الأستاذ لا يستحق درجة أعلى من «ضعيف.» تقلّب أنت الأمر في ذهنك عن هذا الانقلاب والتناقض الهائل بين تقييمه المكتوب للشخص وتقييمه الشفهي المراوغ غير المباشر أمام اللجنة، لتحطيم تقييم ذلك الشخص، فتعرف أنه الخداع والنفاق. فهو يقول لهذا الأستاذ لو اشتكى إليه، أُقسمُ بالله أنني أعطيتك تقييمًا بدرجة «متميز،» ولكن أعضاء اللجنة - سامحهم الله - هم من خسفوا بتقييمك الأرض. فالجمع بين شخصية القدِّيس والشيطان أمر لم يعد نادرًا في كثير من النفوس. وسيبقى المنافقون سادة، ما بقي الناس منخدعين بالمظاهر والمسميات ولا يمررون كل شيء على محك المنطق والعقل والأخلاق. وقد بيّنت كثير من البحوث ومن خلال نظرية «الإسقاط النفسي» أن من يسدي النصح دون أن يطلب منه هو في الغالب أكثر حاجة لهذا النصح من غيره. فالجبان يحاضر في الشجاعة، والبخيل ينصح بالكرم، والكاذب يأمر الناس بالصدق. والسارق يتظاهر بالأمانة ويطالب الناس بها، ف«مِن مأمَنِهِ يُؤتى الحَذِر» كما تقول العرب. وبغض النظر عن صفة الناصح، ومكان النصح وتوقيته، فإن الناس في الغالب لا تستمع للنصائح، وخصوصًا عند فقدان الثقة في الشخص المقابل. وهم يرفضون النصح حتى من الأقربين والمحبين لأنه يحمل في طياته محاولة للهيمنة والاستعلاء عليهم، ويحمل بذور الشك وروح الانتقاد. ولكن الأهم من ذلك كله، أن النصح ترفضه النفوس بشكل دفاعي؛ لحرص الناس على حماية حريتهم واستقلالية قرارهم. والحقيقة التي يجهلها الكثير من الناس، أنه عندما يتحدث الناس مع بعضهم بشكل طبيعي فهم متساوون في القيمة ويتعاملون كأنداد. ولكن سرعان ما تنقلب هذه العلاقة إلى سيّد ومَسُود، حيث يختل ميزان القوة، عندما يبدأ أحدهم بالنصح، بغض النظر عن طبيعة النصيحة ومكانة من تصدر منه النصيحة.