منذ نشأت فكرة إقامة وطن لليهود في نهاية القرن التاسع عشر على يد قادة الحركة الصهيونية في وسط وشرق أوروبا، بدأ مصطلح «العداء للسامية» يتبلور ويتحول من مصطلح العداء لليهود الذي كان سائدًا في الثقافة المسيحية. وعندما تجسد العداء لليهود في الفكر العنصري النازي في ألمانيا، ولأن النازية رأت في العرق الآري تفوقًا على جميع الأعراق ومارست بناء عليه سياسة إجرامية ضد اليهود كعرق وضد العالم كدول وشعوب، وجدت الحركة الصهيونية في ذلك فرصة لتوطين مفهوم العداء للسامية بدلا من مفهوم العداء لليهود. العداء لليهود، قد يؤبد مشاعر العداء ضد كل اليهود وبخاصة عندما تقوم دولتهم كدولة يهودية بما في ذلك من تبعات سلبية أمام ما تدعيه الايدولوجيا الصهيونية لإقامة دولة ديمقراطية على غرار الديمقراطيات الغربية التي تجاوزت مفهوم الدولة الدينية أو الدولة القومية العرقية. صحيح أن الجدل حول المصطلحين لا يزال قائماً لكن نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام دولة إسرائيل وما آلت إليه الأمور من قتل وتشريد وحروب على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة كشفت الكثير. كشفت دعاوى دولة إسرائيل الديمقراطية وكذلك دعاوى الدول الديمقراطية الغربية القائمة على التعاون غير المشروط مع دولة لا تزال دولة احتلال وقمع في القرن الحادي والعشرين. كشفت أيضا سبب توطين مفهوم «العداء للسامية» الذي خدم إسرائيل وأعطاها وحلفاءها منذ تأسيس الدولة وإلى يومنا هذا القدرة على إطلاق صفة «المعادي للسامية» على كل فرد أو جماعة أو حزب أو حتى حكومة بمجرد انتقاد إسرائيل حتى على جرائمها التي تقر هي بحدوثها. لكن، وبما أن «لكل شيء إذا ما تم نقصان» لم تعد تهمة العداء للسامية تنطلي على الكثيرين. اليوم تتعرض إسرائيل كدولة محتلة وكسياسة يمينية متطرفة وعنصرية للنقد الصارم ليس فقط على مستوى القوى والمؤسسات والأفراد بل وعلى لسان السياسيين في كل بلاد العالم. يمكن القول وبناء على ما ينشر في الإعلام الدولي بل وعلى صفحات الإعلام الإسرائيلي إن إسرائيل تعيش اليوم عزلة سياسية وفكرية لم تمر بها الدولة الإسرائيلية منذ تأسيسها. ما يبدو لافتا هذه الأيام، هو أن الأوساط اليمينية الحاكمة في تل أبيب، تعيش ارتباكًا واضحًا مع وصول الرئيس ترامب للرئاسة الأمريكية وما قام ويقوم به ترامب وفريقه من تعيينات وتوقعات لقيادة الإدارة الجديدة. وفي هذا السياق، سارع اليمين الإسرائيلي الحاكم لمواجهة مأزق «العداء للسامية» وعمل ما من شأنه التفاهم مع الوجوه العنصرية والمعروفة بعدائها المعلن للسامية والتي ستكون مؤثرة في سياسة أمريكا بشكل عام ومع إسرائيل بشكل خاص. الإسرائيليون يعرفون مدى «كره» اليمين الغربي لهم كيهود، واليمين الغربي يعرف مشاعر اليهود تجاهه، لكن الطرفين يعملان سياسياً معاً وفق مصالح ومشاعر متبادلة. لكن التاريخ لا يعمل وفق رؤى مصممة ومسيّجة بالقوة. نهاية التاريخ رأي اخترعه فيلسوف أمريكي وأعلن تراجعه عنه قبل نجاح ترامب وقبل تدشين «سياسته». ولأن اليمين الإسرائيلي قبل غيره يدرك هشاشة مفهوم العداء للسامية ونفعيتها في التوظيف، سارع إلى التصالح مع هذا المفهوم بشكل علني. هكذا نقرأ بعضاً مما جاء في تقرير لصحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية، المحسوبة على المعارضة عن تحركات حكومة نتنياهو اليمينية وبعض أوساط اليمين حول الحراك الذي يعم أوساط الرئاسة الأمريكية المنتظرة. تحت عنوان: «أصدقاؤنا المعادون للسامية»، نقرأ «فجأةً لم يعد من المفزع أن تكون معاديا للسامية. لقد أصبح من المسموح به أن تكره المسلمين والعرب ولا تحب إسرائيل. اليمينيون اليهود والإسرائيليون أصدروا مرسوم عفو عريضا عن «عشاق» إسرائيل المعادين للسامية. ذلك، لأن هؤلاء هم من سيدير قريباً السلطة في واشنطن. ابتداء من الآن، المعادون للسامية، لم يعودوا موجودين إلا في صفوف اليسار. روجي ووتر الذي يطالب بمقاطعة إسرائيل هو المعادي للسامية. أما ستيف بانون، هذا العنصري البغيض المنادي علنا بالعداء للسامية والمعين مؤخرا كرئيس لإستراتيجية البيت الأبيض فهو صديق لإسرائيل. حتى سفير إسرائيل في واشنطن رون درمر سارع للمشاركة في الحفلة. في نهاية الأسبوع الماضي، أعلن بأنه متلهف للعمل مع بانون. درمر منا إسرائيلي ومتلهف للعمل مع هذا العنصري. على كل حال، سيتفاهم الاثنان وبخاصة حول أنه لا يوجد شعب فلسطيني، ولا يوجد احتلال ومستعمرة «بت زاهار» القريبة من نابلس يجب أن تبقى إلى الأبد ومن يعارضون ذلك فهم خونة. لقد أصبح من الممكن بعد اليوم التفريق بين العنصرية ومعاداة السامية. السؤال البسيط: هل كانت إسرائيل وهي «تحارب» العداء للسامية غير عنصرية منذ تأسيسها إلى اليوم؟. * كاتب ومحلل سياسي