بلغ الدين العام 14 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، فوفقاً لما أعلن مكتب إدارة الدين العام بوزارة المالية فإن قوام الدين العام 342.4 مليار ريال، منها 200.1 مليار ريال اقترضت في العام الحالي 2016. وتفصلنا أيام قليلة عن اعلان الميزانية العامة للعام المالي القادم 2017، فيما يستبشر العديد منا أن تحقق إيرادات النفط للعام القادم 60 دولاراً للبرميل الواحد أي ضعف ما كانت عليه توقعات (ولا أقول ما تحقق فعلاً) لأسعار النفط لعامٍ مضى، مما يعني -في حال تحقق ذلك- تواصل تصاعد إيرادات الخزانة. فما الخيارات المستجدة؟ أن ننفق ونستدين، أم نكتفي بإنفاق ما نحققه من إيرادات؟! قبل الإجابة، ما المتوقع أن نحققه من إيرادات نفطية في العام 2017؟ بافتراض أن صادراتنا النفطية سبعة ملايين برميل يومياً، وبمتوسط سعر 50 دولارا للبرميل، يكون حصيلة إيرادات النفط 480 مليارا، إضافة إلى إيرادات غير نفطية في حدود 220 مليارا تقريباً وقد تتجاوز ذلك، فيصبح مجموع الإيرادات المفترضة 700 مليار ريال تقريباً للعام 2017، هل تكفي؟ هناك طرق عدة لعدم مراكمة الديون، والتعامل مع قصور الإيرادات النفطية. ومن تلك الطرق السعي لإصدار ميزانيات متوازنة صفرية العجز، لا تسمح للمصروفات أن تتجاوز الإيرادات، وبذلك يكون العجز صفراً! وقد يستصعب البعض تطبيق ذلك، لكنه أسلوب مُبرر وسط تذبذب الإيرادات النفطية والرغبة في عدم التوسع في الاستدانة لتغطية مصاريفٍ جاريةٍ؛ إذ أن منهجية «ميزانية بلا عجز» تضغط على المصروفات وتلجأ مباشرة إلى آليات تقشفية في حال تراجع الإيرادات عما كان متوقعاً، وبذلك لا نستدين ولا نسيّل الاحتياطي العام أو الاحتياطيات الخارجية. وثمة ايرادات اضافية يمكن توليدها من تنشيط برنامج الخصخصة، تذهب لدعم برنامج البنية التحتية وزيادة السعة الاقتصادية. وبالنظر إلى أن تنمية الإيرادات غير النفطية هو أحد مرتكزات الرؤية، والتي تسعى للوصول بتلك الإيرادات إلى ترليون ريال في العام 2030، مما يبرر القول إن إيرادات الخزانة غير النفطية إلى تصاعد. كما أن برنامج إعادة هيكلة منظومة الدعم، سيؤدي إلى تخفيف تكلفة الدعم على الخزانة العامة للدولة. أعود للسؤال: هل تكفي الايرادات؟ إن كان مستوى الانفاق في العام 2017 يساوي الانفاق في هذا العام والعام الذي قبل، أي في حدود ترليون ريال، فهذا سيعني أن علينا توفير أموالٍ إضافية لتغطية القصور المتوقع في إيرادات 2017، أي بحدود ثلاثمائة مليار ريال. وبداهة، فسيكون أمرا غاية في الصعوبة أن ننفق عاماً بعد عام أكثر مما يأتي من إيرادات للخزانة العامة، ولاسيما أن المملكة بذلت جهداً كبيراً على مدى عقدين من الزمن للخروج من دائرة الدين العام المرتفع الذي وازى -من حيث القيمة- في وقت من الأوقات الناتج المحلي الإجمالي. ولابد من بيان أن لا اعتراض على الاستدانة من حيث المبدأ، فذلك أمر تمارسه الدول على نطاق واسع، بل في وتيرة تناميه مستقبلاً. ويمكن الجدل، ألا أحد يطمح للعودة لسيناريو الديون المرتفعة؛ والدخول في دوامة الاستدانة وسداد ديون عالية زائد التكاليف المترتبة عليها لتنافس حفز التنمية والنمو. كما أن لا أحد يطمح للعودة مرة أخرى للتوقف العملي لبرنامج استكمال وتحديث البنية التحتية والاجتماعية، الذي جعلنا نعاني من نقص في جوانب عدة منها استئجار المدارس ونقص في عدد الأسرة وقصور في الصرف الصحي، على سبيل المثال لا الحصر. إن ما حققته المملكة خلال العشر السنوات الماضية من إنفاق رأسمالي ضخم توجه للبنية التحتية ولزيادة السعة الاقتصادية، أدى لرفع نسبة الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي من 18 بالمائة إلى نحو 28 بالمائة. ويمكن بيان أن الاقتصاد السعودي بحاجة للعمل حثيثاً للحفاظ على تلك النسبة المرتفعة، فهي تبقي اقتصادنا حيوياً متنامياً، حتى إن تطلب الأمر أن نطلق برنامجاً تحفيزياً يرتكز على ضخ استثماري فزيادة معدل نمو الاقتصاد هو ما قد يبرر الاستدانة، باعتبار أن تلك مشاريع اقتصادية ستؤتي أكلها لاحقاً، في صورة وظائف للمواطنين والمواطنات، وفرص استثمار للمواطنين والمواطنات، وتساهم في تحسين مناخ الاستثمار بما يؤدي لاستقطاب المستثمرين والخبراء الأجانب، وتنمية الصادرات، والاحلال محل الواردات. والآن، أمامنا تحديات لا تقل حدة عما مضى، مصدرها اهتزاز مكانة النفط على المدى الطويل انطلاقاً من تغييرات هيكلية في الطلب ولاسيما في استخدامات النقل وارتفاع كفاءة استغلال مصادر الطاقة البديلة ولاسيما الطاقة الشمسية. مما يعني أننا في مرحلة حرجة فاصلة بين تداعي مكانة النفط من جهة ومحدودية إيراداتنا من المصادر غير النفطية، مما يعني أن علينا السعي حثيثاً لتنمية الأنشطة الاقتصادية غير النفطية على أسس الاستقلال الاقتصادي الخالي من الدعم من جهة، وتوليدها لإيراد للخزانة العامة من جهة أخرى. هل نستطيع الاستمرار بتحمل عجز قدرة عدة مئات من المليارات سنوياً؟ بالتأكيد لا. الحل المؤقت السحب من الاحتياطي والاقتراض محلياً وخارجياً، وهذا ما مارسناه خلال العامين المنصرمين، لكنه خيار غير مستدام، كما يدرك الجميع بداهة. الحل المستدام هو تنمية الإيرادات غير النفطية. وهذا سيأخذ وقتاً. وريثما يتحقق فيبدو أن «الميزانية صفرية العجز» خيار علينا تفحصه منهجياً بتمعن، ومضاهاته من حيث التكلفة والعائد بخيارات دأبنا على اتباعها تلقائياً. لماذا الآن هو أنسب وقت لتطبيق «الميزانية صفرّية العجز»؟ أننا دخلنا مع تطبيق الرؤية السعودية 2030 إلى مفترق تاريخي يقوم على اعتماد متزايد للخزانة العامة على الإيرادات غير النفطية، وهي إيرادات -بطبيعتها- تتجمع من رذاذٍ كرذاذ المطر، وليس كسيل «الإيرادات النفطية» المليارية. إضافة إلى أن تنامي الإيرادات غير النفطية -بطبيعته كذلك- يعتمد على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي كمحددات. إضافة إلى أن تنويع الإيرادات غير النفطية له شرط سابق، وهو الحد من الهدر وتعزيز الشفافية والمحاسبة، وتحقيق هذا الشرط، سيوفر سياقاً يتيح إيراداً لا يعتمد على النفط، لكنه يعتمد على تنامي وتيرة الإنتاج، ويتطلب كفاءة في الانفاق كذلك، من باب أن «كل ريال توفره هو ريال جديد كسبته»، وهذه أسس طرحت في وثيقة الرؤية السعودية 2030 بوضوحٍ تام.