في العلوم السياسية هناك مفردة دقيقة، تستخدم في الحالات الاستثنائية، وتغني عن أي وصف آخر، هي كلمة outliner. والكلمة تعني حدثا خارج كل الحسابات والفرضيات. كأن تقول مثلا إن التدخين قاتل، فيعترض عليك آخر بالقول إنه يعرف شخصا من مدمني التدخين بلغ من العمر مائة عام. ذلك يحدث في كل المجالات بشكل نادر، مكانه خارج التحليل العلمي. ولعل هذا التوصيف، هو أصدق تعبير لواقع انتصار رونالد ترامب ضد منافسته هيلاري كلينتون، وهو انتصار خارج كل حسابات التحليل السياسي. في هذه القراءة نتلمس بعض الأسباب التي يمكن وضعها في موقع الفرضيات إلى أن يتم اختبارها والتأكد من صحتها، لكنها تبدو حسابات أقرب لتفسير الزلزال الأمريكي السياسي، الذي أخذ مكانه بهزيمة السيدة كلينتون، واكتساب ترامب النصر بجدارة أصوات اقتراع الأمريكيين. قيل في تفسير انتصار ترامب على منافسته هيلاري كلينتون، إن الأمريكيين لم يعودوا يثقون بالساسة، وإنهم سئموا وعودهم، وإن هناك نموا صاعدا للتيارات الشعبية على مستوى القارة الأمريكية، وإن ذلك يجري الآن أيضا بنسب متفاوتة بالقارة الأوروبية. ووصف البعض ذلك بأنه عودة للقومية الشعبية. وقال آخرون إن ثمة تحولا حقيقيا من الساسة إلى القادة الشعبيين. وفسر آخرون، هذا التحول، بأنه نتاج تصاعد في المشاعر العدائية من قبل السكان البيض الذين يتجاوز تعدادهم 68% ضد الملونين والأقليات الأخرى. ووعود ترامب بمنع الهجرة غير الشرعية لبلاده، وبناء حائط يفصل بين المكسيكوالولاياتالمتحدة، للحيلولة دون التدفق غير الشرعي للمكسيكيين. وقيل أيضا إن غالبية جمهور الشباب صدقوا وعوده بإعادة رؤوس الأموال الهاربة إلى الصين ودول النمور الآسيوية مجددا إلى أمريكا، نتيجة انخفاض الضرائب. وأن تزامن عودة رؤوس الأموال المهاجرة، وطرد المهاجرين غير الشرعيين من شأنه توفير 25 مليون وظيفة، دون تحديد الأساس الذي بني عليه هذا التقدير. لكن الوقائع على الأرض، لا تسند هذه القراءات. فترامب لم يصل إلى السلطة قادما من الجيتو، بل هو نتاج المؤسسة الرأسمالية، التي تقود الحكم بالولاياتالمتحدة. وهو صديق قديم لمعظم الساسة الذين تربعوا على السلطة عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وقد لا نأتي بجديد حين نشير إلى علاقة عائلية خاصة تربطه بالرئيس بيل كلينتون وزوجته هيلاري، التي ألحق بها الهزيمة. كما أن برنامجه الانتخابي، على صعيد الداخل، لا يختلف قيد أنملة عن برامج أقرانه من الرؤساء الجمهوريين السابقين. فهو، كما هي عادة نظرائه من الحزب الجمهوري، يطالب بتخفيض الضرائب، بما يترتب على ذلك من تقليص البيروقراطية، وطرد عشرات الألوف من موظفي المؤسسة الفيدرالية من وظائفهم، وتقليص خدمات الضمان الاجتماعي، والتراجع عن برنامج الرئيس أوباما الصحي. وما إلى ذلك من مشاريع تصب جميعها في ترشيق مؤسسات الدولة، وإضعاف الطبقة المتوسطة، والانتصار لمبدأ آدم سميت المستند على تشجيع التنافس الاقتصادي، وحرية السوق. يتفق الجمهوريون أيضا مع ترامب، في ضرورة سن قوانين تحد من الهجرة غير الشرعية للولايات المتحدة. وهم بالتأكيد يختلفون معه في اسلوبه المفرط الذي لا يتورع عن مهاجمة النساء، والحديث بصلافة عن خصومه. ولكن هذه قضايا ليست لها علاقة البتة ببرنامجه الانتخابي. يختلف الحزب الجمهوري مع ترامب، في بعض تصريحاته المتعلقة بالسياسة الخارجية، لكنهم في الصميم معه، تجاه تصريحاته المتشددة، بشأن الملف الإيراني. أما القول بأنه خرج على الساسة، ووصفه بالشعبوية، فيطرح أسئلة ملحة، تتعلق بالفريق الذي سوف يعمل معه، وبعلاقته بالكونجرس الأمريكي ومجلس الشيوخ، وأيضا بعلاقته بمجموعات المصالح، وقوى الضغط السياسي والاقتصادي، بكل تشعباتها. إذ من غير المتصور، أن يقود ترامب أكبر وأغنى قوة دولية، من غير تفاهم شامل مع مؤسساتها الفاعلة على كل الصعد، وذلك ما يجعل الحديث عن ابتعاده عن المؤسسة الأمريكية، افتراء محضا. لقد أكد ترامب، في خطاب النصر، الذي أدلى به إثر انتهاء عملية فرز الأصوات، قراءتنا هذه. فالخطاب جاء تصالحيا، ومعلنا نهاية مرحلة التنافس على المعقد الرئاسي، وبدء مرحلة جديدة، من التعاون مع الجميع. إن ذلك يعني أن علينا أن نبحث عن أسباب أخرى، أسباب غير تلك التي ذكرت من قبل المحللين السياسيين، لتبرير انتصاره الساحق على غريمته، ولماذا فشلت كل التنبؤات بفوز كلينتون، وهزيمة ترامب. واقع الحال، أن ترامب دخل في اللعبة بشكل ماهر، طمأن الجميع، ومن ضمنهم شخصيات بارزة في الحزب الجمهوري بفشله. أما قيادة الحزب الديمقراطي، فقد وضعت كما يقول المثل الشعبي لدينا، أيديها في ماء بارد. وقد أفقدتها ثقتها المطلقة بالنصر عنصر التحسب والمبادرة، وخلقت حالة من الاستكانة. هذا المشهد تكرر من قبل، للرئيس جورج بوش الأب، حين تنافس مع المرشح بيل كلينتون، القادم من اركانسا، الولاية التي لا تحمل ثقلا كبيرا، في حسابات الساسة الأمريكيين. دخل جورج بوش دورته الانتخابية الثانية، محملا برصيد هائل من الانتصارات. فقد سقط الاتحاد السوفياتي ومعه انتهت الكتلة الاشتراكية، وانتهي حلف وارسو، وتربعت الولاياتالمتحدة بمفردها على عرش الهيمنة الدولية. وكان في بداية دورته الأولى قد احتل بنما، واعتقل رئيسها نرويجا، المتهم بتجارة المخدرات، ولا يزال يقبع في السجون الأمريكية حتى يومنا هذا. وحين غزا الجيش العراقي دولة الكويت تمكن بوش من تشكيل تحالف دولي من ثلاثين دولة، انهى الغزو العراقي للكويت. وعلى الصعيد الدولي، قاد بوش مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، حيث جمع السوريين والأردنيين والفلسطينيين و»الإسرائيليين» على طاولة مفاوضات واحدة. هذا الرصيد الهائل، يقابله منافس قادم من ولاية مغمورة، لا يملك السجل الحافل الذي يملكه رئيس مقيم بالبيت الأبيض، ومتربع على عرش الهيمنة العالمية. لكن شعور الطاووس هذا أفقده عنصر المثابرة والتحسب، واستثمر كلينتون بذكاء ودهاء وصبر نقطة ضعف غريمه، فحقق فوزا كاسحا ضده، طارحا برنامجا تفصيليا وواضحا، لم يتردد عن شرحه حتى لطلاب المدارس الابتدائية، فكان النصر حليفه. ترامب هو الآخر، دخل الحلبة، بنفس العزيمة التي دخل بها كلينتون من قبله، بأربعة وعشرين عاما، من هذا التاريخ. وهذه المرة لعبت كلينتون دور الطاووس، في ثقتها المطلقة بالفوز بالبيت الأبيض. اختفت فترة عن متابعة السباق الرئاسي أثناء احتدام التنافس، وقيل إنها أصيبت بأنفلونزا حادة. ومرة أخرى، توقفت عدة أيام عن مواصلة حملتها الانتخابية أثناء التحضير للقاء الحواري الأول، على الهواء مباشرة مع غريمها ترامب. علاوة على ذلك أثار مكتب التحقيقات الفيدرالي موضوع رسائلها الالكترونية، قبل أربعة أيام فقط من موعد الانتخابات، وقلب الطاولة عليها. ومن يومها تقلصت فرصتها بالفوز، رغم أن التقديرات سجلت فارقا قصيرا لصالحها بالأيام الأخيرة، لكن تلك التقديرات لم تكن صائبة، وأغفلت موقف الناخبين المتأرجحين في المناطق النائية.