قرأت ذات يوم عن إحدى التجارب النفسية التي استوقفتني ووددت أن أشارككم إياها؛ كوني بدأت أنظر للأمور بشكل فاحص أكثر بعد قراءتي عنها. فهي تجربة علمية تفسر بعض ما نقوم به في حياتنا كردود فعل على ما نعيشه وتبين سلوكنا عندما تكون لدينا أفكار متناقضة في آن واحد، أي أن نقتنع بفكرتين أو معتقدين نقيضين وهذه حالة إن تبدو غريبة أو مستحيلة فهي جزء من واقعنا دون أن نعي ذلك. فحالة تناقض الأفكار أو إن استخدمنا مسماها العلمي وهو التنافر المعرفي (cognitive dissonance) هي حالة توتر مزعجة تدعو الشخص لإلغاء أو تغيير إحدى الأفكار ليحصل التناغم فالإنسان يحاول أن يصل إلى التوازن وإبعاد ما يسبب التوتر. وكمثال بسيط نرى أن المدخن مثلا يعلم يقينا أن التدخين مضر بالصحة ولكنه كذلك يستمتع ويتلذذ بالتدخين وهذان اعتقادان متناقضان، يجبر المدخن على إيجاد عذر يسمح له بالاستمرار بإزالة التوتر الناتج عن التناقض بالاستشهاد مثلا بمن عمّر وشاخ دون أن يضره التدخين. التجربة العلمية التي أود طرحها هنا ترجع إلى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي لجامعة بيركلي في كاليفورنيا، حيث قسم طلاب إلى فريقين وطلب منهم كل على حده أن يقلب أعواد خشبية على لوح بشكل مستمر دون توقف لمدة نصف ساعة وهذه المهمة غير مفيدة في شيء بالإضافة إلى أنها مملة. الطلاب في الفريق الأول استلم كل منهم مبلغ دولار مقابل هذا العمل بينما الطلاب في الفريق الثاني فاستلم كل منهم عشرين دولارا. بعد ذلك طلب منهم أن يكذبوا ليقنعوا طالبا آخر بأن ما قاموا به ممتع. الغريب في الأمر أن الذين استلموا دولارا واحدا كانوا مقنعين أكثر من الذين استلموا العشرين وذلك تفسره نظرية التنافر المعرفي. فمن استلم مبلغا زهيدا مقابل عمل ممل يبرر لنفسه بأن العمل كان أمتع مما كان عليه فعلا وإلا يحس بأنه تم استغلاله ولذلك يحسّن إما المكافأة أو العمل، ونظرا لثبات العمل يسهل تغيير نظرته للمتعة. أما من أخذ مبلغا مجزيا عن المدة التي قضاها بغض النظر عن العمل فلا يجد سببا ليقنع نفسه بشيء مغاير عن الواقع؛ لأنه تم تعويضه لذا كان كذبه أقل إقناعا من الأول. تستخدم فكرة التنافر المعرفي في التسويق مثلا حيث وجد الباحثون أنه عند شراء شيء غال يزيد استمتاع الناس به. فمثلا عندما تدفع السعر الكامل توهم نفسك بأنك راض أكثر من لو أنك اشتريت شيئا مخفضا. فبالسعر الغالي يقنع الشخص نفسه أنه حصل على صفقة وأن السلعة قيّمة بينما عند دفع ثمن قليل لا داعي لأن نخوض في هذا الإقناع الذاتي وتظهر مشاعرنا تجاه السلعة بشكل أكثر صراحة. من يشتري الغالي نسمع منه كثيرا مبررات تنتهي بمقولة «سعره فيه» وبهذا يظهر الرضا بشكل عام؛ لأنه من الصعب أن تجتمع فكرة أن سعر السلعة أغلى من القيمة الفعلية مع فكرة عدم الرضا بالمنتج. أن نسأل أنفسنا أين نصرف أموالنا وهل نحن راضون بشكل شخصي شيء مهم. ويمكننا كذلك توسيع التساؤل ليشمل مؤسساتنا ووزاراتنا. فأين تصرف ميزانياتها الضخمة؟ هل هم راضون فعلا عن تنفيذ المشاريع والبنى التحتية والاستشارات والدراسات التي يقدمها الخبراء الأجانب وكلها ابتلعت أموالا طائلة؟ أم أنهم تحت تأثير التنافر المعرفي عندما تكون مبرراتهم جاهزة ومحاولات الإقناع بالنجاح شديدة بالرغم من عدم مقدرتنا على تمييز النجاح بالعين المجردة؟ هنا قد لا يجتمع الرضا عن الصرف الهائل مع النتيجة المتواضعة فيبررون لتعديل أحدهم. بعد تعرفي على هذه النظرية أصبحت أدقق في الأمور أكثر، فهل تشاركونني التمحيص؟