أعادت التجربة الآسيوية في التنمية الاعتبار لمفهوم «الدولة التنموية»، والمقصود هو تلك الدولة القادرة على إطلاق عملية تنمية متواصلة، لا تتوقف عند رفع معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، وإنما تتعدى ذلك إلى إحداث تحولات جذرية في هياكل الإنتاج. بمعنى آخر، تقوم الدولة التنموية بقيادة التحول لحالة التصنيع، خاصة في حالاتٍ تكون فيها البلاد متخلفة صناعياً. التجارب التنموية المتعددة في جنوب شرق آسيا، عكس ما يروى من أساطير عنها، دلَّلَت على أهمية دور الدولة في التخطيط الاستراتيجي، وتغيير تركيبة القطاعات الاقتصادية في تلك البلدان، ودعم الصناعة، من خلال منح حوافز للصناعات الممكن تصديرها، والترويج للاستثمار في هذا المجال، وتالياً، تحقيق معدلات نمو استثنائية في الناتج المحلي الإجمالي. التحول الجذري في هياكل الإنتاج، تمثَّل آسيوياً بالانتقال من صناعات خفيفة إلى صناعات حديثة ومتقدمة تقنياً، مثل صناعة الالكترونيات، ضمن توجيه الدولة وإشرافها، وفي إطار تخطيط استراتيجي، اتسم بالانحياز إلى الصناعات التصديرية. الصادرات في تلك الدول لم تكن المحرك لعمليات النمو والتنمية، كما في حالة الدول التي تُصدِّر سلعاً أولية مثل النفط والمعادن، بل كان العكس صحيحاً، أي أن عمليات النمو والتنمية التي وجهتها الدولة، ساهمت في تحفيز الصادرات، فنتج النجاح الضخم للتصدير في دول شرق آسيا. كذلك، كان للسياسات المساندة، مثل السياسات التعليمية، دور أساسي في إنجاح عملية التنمية هناك. في كوريا الجنوبية، كان التفوق الصناعي الذي نشهده نتاج السياسات الحكومية التدخلية، من حيث دفع الشركات الصناعية لتكوين وحدات اقتصادية عملاقة لدخول الأنشطة الصناعية المتقدمة تقنياً، ودعم رؤوس الأموال الوطنية بتقييد الاستثمار الأجنبي المباشر، وتقديم التسهيلات للمجمعات الصناعية العملاقة، التي أصبحت منتجاتها علامات تجارية شهيرة في العالم اليوم. بالتأكيد ساعدت كوريا في نهوضها التنموي المساعدات الأمريكية الكبيرة، الاقتصادية والعسكرية، لكن منذ منتصف السبعينات وحتى التسعينات، اعتمدت كوريا على الجهد الذاتي في الادخار، وحققت قفزة تنموية هائلة منذ منتصف الثمانينات، كما أن رؤوس الأموال الأجنبية لم تساهم مساهمة كبيرة في عملية التنمية الكورية، وقد كان الاستثمار الأجنبي محدوداً بقطاعات مثل البتروكيماويات والالكترونيات ومعدات النقل. لم تحصل عمليات الخصخصة في غالب التجارب الآسيوية الناجحة تنموياً إلا على مراحل وبالتدريج، بعيداً عن عقيدة «الصدمة» النيوليبرالية، وكذلك الأمر مع فتح الأسواق للاستثمار الأجنبي، فقد حصل بالتدرج، وبتقييدٍ كبير، يحمي الصناعات المحلية. في المقابل، قامت مصر في السبعينات، باعتماد الوصفة النيوليبرالية في الخصخصة، القائمة على الصدمة، وإنهاء دور الدولة في التوجيه والتخطيط الاستراتيجي، لمصلحة الشركات الخاصة، وضمن حالة غير إنتاجية، وهذا نموذج للعديد من الدول النامية، التي ابتلعت أساطير نيوليبرالية، فجَنَت كوارث اقتصادية.