اقتصرت وظائف الدولة في الولاياتالمتحدة وأوروبا، في القرن التاسع عشر، وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، على القيام بالوظائف السيادية، مثل ضبط الأمن والدفاع والقضاء والشؤون الخارجية، وكانت تُمَوِّل بعض مشاريع البنية التحتية، لكنها لم تكن توفر الخدمات التعليمية والصحية للأغلبية من السكان بالشكل المتعارف عليه اليوم. بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى منتصف القرن العشرين، ثم السبعينات من ذلك القرن، تطور مفهوم دولة الرعاية أو دولة الرفاه، وهو مفهوم يعبر عن توفير الدولة الحماية الاجتماعية والخدمات الأساسية لأفراد المجتمع جميعاً، بما يحفظ الحد الأدنى من كرامتهم طوال حياتهم، ويتركز إنفاق الدولة على الخدمات التعليمية والصحية، ومعاشات التقاعد. يشير الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي إلى أن الإنفاق على التعليم والصحة بين 10-15٪ من الدخل القومي في الدول الصناعية المتقدمة، مع مطلع القرن الحالي، فيما تشكل المداخيل البديلة (معاشات التقاعد، تعويضات البطالة) والتحويلات (المعونات الاجتماعية والمساعدات العائلية) نفس النسبة، وقد تقترب أحياناً من 20٪، وهذا قائمٌ رغم ما حصل من الثمانينات إلى اليوم من تقليص لدور الدولة في تنظيم الأسواق المالية، وتوسع الخصخصة في القطاع الصناعي والمالي. فشلت مثلاً محاولات رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، التي تبنت تقليص دور الدولة لصالح اقتصاد السوق، في المس بالنظام الصحي الوطني في بريطانيا، لكن دولة الرعاية لم تتوسع أكثر. تتأسس دولة الرعاية على قاعدة المساواة، إذ يتساوى كل المواطنين في فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية، بغض النظر عن اختلاف مداخيلهم وثرواتهم، وبمعنى آخر، مع الإقرار بوجود تفاوت اجتماعي، تقوم الدولة بمحاولة تقليص هذا التفاوت قدر المستطاع، ومساعدة الأقل حظاً في المجتمع، بحسب تعبير جون راولز. في الواقع، لا ينطلق دور الدولة في تقليص التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء، وحماية الطبقات الوسطى والدنيا، من حالة مبدئية وحسب، بل حتى على المستوى الاقتصادي، يضر توسع التفاوت الاجتماعي بالاقتصاد، إذ يُضعِف القوة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا، فيضعف الطلب والاستهلاك، وينتج الانكماش. كان توسع التفاوت الاجتماعي في الولاياتالمتحدة، أحد أسباب عدم الاستقرار المالي، وما أدى إليه من أزمةٍ مالية عام 2008. نموذج دولة الرعاية، وما توفره من حماية لمتوسطي ومحدودي الدخل، تواجه محاولة تقليص وتجريف من أتباع اقتصاد السوق، الذين يدعمون خصخصة الخدمات الأساسية المقدمة من الدولة، بحجة تخفيض التكاليف، ورفع كفاءة الأداء من خلال التنافس، لكن محاولات تقليص الدولة، لم تنتج سوى زيادة التفاوت الاجتماعي، والأزمات المالية في الدول الغربية. أما الدول النامية، التي طبقت الوصفات النيوليبرالية حول الخصخصة وفتح الأسواق، فلم تحصد سوى تردي الخدمات الأساسية، وزيادة الفقر والديون والبطالة، في ظل سطوة القلة المرفهة على الأغلبية المُعْدمَة.