إلى كمْ ذا التخلّفُ والتّواني وكمْ هذا التّمادي في التّمادي وما ماضي الشّبابِ بمُسْتَرَدٍّ ولا يَوْمٌ يَمُرّ بمُسْتَعادِ «أبو الطيب المتنبي» العرب اليوم ماضويون أكثر مما يعيشون اللحظة. فهم لا يعيشون زمنهم ولا يعملون لصنع المستقبل. وبقوا يجترّون التاريخ وأحداثه إما فخرًا أو ألمًا. يخافون من المستقبل، ويستحضرون عقد الماضي وخلافاته وأسوأ ما فيه ليقيدوا عقولهم ويحجروا على قدرتهم على الفعل المؤثر الذي به يغيّرون مستقبلهم. كلنا نعيش بين الماضي والمستقبل، فنحن نحيا الحاضر. ولا نستطيع أن نفكر أو نعمل أو نغير أي شيء بشكل مباشر إلا من خلال اللحظة الراهنة. ويقدم لنا ماكس ماكيوين، مؤلف كتاب «#الآن» والمنشور للتو (تموز 2016م)، نظرة مختلفة تمامًا لكيفية رؤية الناس للماضي والحاضر والمستقبل. يرى ماكيوين أن هناك دائرتين متقاطعتين. إحداهما تمثل الماضي الذي لا نستطيع تغييره، والأخرى تمثل المستقبل الذي نرغب ونستطيع تغييره. والمساحة المشتركة بينهما هي ما سماه «اللحظة،» ورمز لها ب «#الآن.» وهذه المساحة هي التي نقوم فيها بصياغة مستقبلنا، ونعيش فيها كل لحظاتنا وتجاربنا التي نصنع بها حياتنا. وهو يرى أن حياة الإنسان مكونة من بلايين اللحظات، التي لا تتجاوز إحداها ثلاث ثوانٍ. وبخلاف عالم النفس الشهير فيليب زيمباردو الذي كان يتبنى العقلية المستقبلية، فإن ماكيوين قسّم الناس إلى عقليتين. الأولى هي ما يمكن أن نسميه «العقلية البعيدة» (الماضوية-المستقبلية)، وهي العقلية التي تتذكر الماضي وتتخيل المستقبل. والثانية هي «العقلية اللحظية،» التي تعيش لحظتها ولا تتوقف عن الحركة. وهناك فروق جوهرية وهامة بين العقليتين. وسواء كنا في مجال العمل أو المنزل، فإنه من المفيد فهم هذه الفروق. والإنسان يملك كلا العقليتين. فعقليتنا اللحظية تعني القدرة والرغبة في اتخاذ خطوات عملية والمضي قدما. بينما عقليتنا البعيدة، لديها قدرة عجيبة لتخيل الماضي والمستقبل. فنحن نعيش في الحاضر ولكننا نحمل هموم الماضي ومخاوف المستقبل. ويرى ماكيوين أن إدراك هذا، يساعدنا جميعا على تحويل حياتنا إلى الأفضل في كل برهة نمر بها في حياتنا. عندما تشعر بأن عقليتك بعيدة، فإن المهام تبدو لك كوسيلة لتحقيق الغايات. فأنت عليك أن تقوم بالأشياء لتبدو أفضل، أو لتنجز المهمة، فحسب. وقد تنسى أن تستمتع بالحياة. ولكن اللحظيين يعشقون الحركة ويسعون لتحقيق المتعة من خلال القيام بالأشياء، ولا يرغبون بإضاعة حياتهم بانتظار سعادة مستقبلية. عندما تكون عقليتك بعيدة، فإنه من السهل إيقافك أو إبطاء عملك. فقليل من المخاوف أو الشعور بالذنب كاف لإعاقتك. قد تعمل بجد ولكنك تشعر بالإجهاد. أما إذا كانت عقليتك لحظية، فإنه من الصعب إيقافك، وتشعر بأنك قوة من قوى الطبيعة بطاقة لا حدود لها للمضي قدما. فأنت ترى العقبات كفرص، والضغوط على أنها مجرد مصدر آخر للتقدم إلى الأمام. وبعكس اللحظيين الواثقين من أنفسهم والقادرين على التعلم، فإن العقلية البعيدة يغلب عليها التردد والشك في صحة قراراتها. وتضيع طاقتها في خضم القلق الذي ينتابها. ولعل من أفضل، النتائج غير المتوقعة من تبسيط حياتنا هو كونها تسمح بأن نعيش اللحظة. فالتخلي عن الأشياء غير الضرورية التي تحمل ذكريات الماضي، يعمل على تحريرنا من الكثير من العواطف المرتبطة بحياة الماضي التي تجعل منا رهائن. فاختيار العيش في الماضي أو المستقبل لا يسرق منا متعة الحاضر فقط، ولكنه يسلبنا حياتنا الحقيقية. فليس هناك أهم من عيش اللحظة الراهنة، بل هي اللحظة الوحيدة المهمة. ومن الأشياء التي تفيدنا في أن نعيش لحظتنا الراهنة هو التبسم وروح التفاؤل. ومن الأمور الهامة هو تقدير اللحظات التي نعيشها بكل ما فيها من أصوات وروائح ومناظر ومشاعر ونجاحات واخفاقات. ويساعدنا في ذلك السمو فوق جراحنا والعفو عن المخطئين بحقنا وتجاوز الألم وما يؤثر سلبًا على مزاجنا. ولا يعني ذلك عدم عيش لحظة الألم في وقتها. ويعد حب الوظيفة جزءا من عيش الحاضر. فإذا كنت تعمل مكرها طيلة أيام العمل بانتظار عطلة نهاية الأسبوع القادمة، فإنك تهدر 71% من حياتك (5 من أصل 7 أيام). والحل هو في البحث عن شيء إيجابي في عملك، أو الانتقال إلى عمل تحبه. حاول أن تحلم بالمستقبل، ولكن اعمل خلال يومك بجد. من الجيد أن تكون الأحلام كبيرة، ولكن العمل بتصميم هو الخطوة الأولى نحو تحقيق هذه الأحلام. وفي كل الأحوال لا يجب أن تحل الأحلام محل العيش في الحاضر. لا تسهب في الحديث عن إنجازاتك الماضية. وتذكر إن كنت كثير الحديث عن الأمس، فإنك لم تفعل ما يُفتخر به الْيَوْمَ. وتوقف عن القلق، فإنك لن تستطيع أن تعيش اللحظة إذا كنت قلقًا كثيرًا حول المستقبل. والأفضل أن توجه طاقتك لأشياء إيجابية لا سلبية. حاول التفكير خارج الحلول التقليدية للمشاكل. فالعالم متغير بشكل سريع. وما صلح لحل مشاكل الأمس قد لا يصلح لمشاكل اليوم. وبالتأكيد لا يصلح لمشاكل الغد. وأخيرا تخلص من بعض عاداتك وإدمانك على بعض التصرفات، لأن ذلك يقيد حريتك في الحياة. وإذا كان بمقدورك أن تعيش فقط كل لحظة بمفردها، فذلك هو معنى أن تعيش وقتك الحاضر الذي هو حياتك. إن سر الصحة في الأذهان والأبدان لا يكون في البكاء على الأطلال، أو الحداد على الماضي، أو القلق حول المستقبل، أو توقع المشاكل، ولكن في عيش اللحظة الراهنة بحكمة وبجدية.