عندما تطرق البعض في أوائل القرن الماضي إلى مفهوم المرأة العاملة كان احد الأسباب التي يرتكز عليها مؤيدو مفهوم المرأة العاملة هو تحسين معدلات الدخل لدى الأسرة لمواكبة ارتفاع كلفة المعيشة. وقد استطاعت بعض الأسر تحقيق معدلات دخل مرتفعة ساهمت ايجابيا في تحسن المستوى المعيشي نتيجة وجود مصدرين للدخل لكل اسرة، لكن ذلك التحسن في المستوى المعيشي لم يكن نصيب كل الاسر حيث تزامن ذلك مع عدم وجود فرصة عمل واحدة لبعض الاسر. ولندرة الاحصاءات التي تغطي هذه الظاهرة، فإن ذلك يشفع للاستدلال بإحصائية نشرتها وزارة العمل الامريكية تفيد بأن 20 بالمئة من الاسر في الولاياتالمتحدة دون فرصة عمل للزوجين في عام 2015. وتفيد الاحصائية ان هذه النسبة بقيت شبه ثابتة منذ تدوين البيانات في عام 1995. وبالرغم من ان هذه الاحصائية شملت الاسر التي تربطهم علاقة زوجية قائمة مع الاسر التي تعيلها المرأة الارملة والمطلقة، إلا انها تكفي لرسم تصور واضح عن الحاجة لتصحيح بنية القوى العاملة. وتعددت المحاولات لتنظيم عمل المرأة في التاريخ الحديث فبعض الدول حظرت عمل المرأة عند الزواج ودول اخرى قيدت عملها في المدن فقط دون الارياف، ودول اخرى حظرت على المرأة المتزوجة العمل واستثنت المرأة المتزوجة التي اصيب زوجها بعجز صحي. وفي ورقة عمل نشرتها جامعة «ليمرك» وقدمتها «ماري رين» عن تاريخ ايرلندا، سردت الباحثة بعض القيود التاريخية على المرأة العاملة منها سابقة تشريعية بأوائل القرن الماضي، حيث قامت دول كبريطانيا وايرلنداوهولنداواستراليا باصدار قانون يحظر على المرأة المتزوجة العمل في القطاع العام مما دفع العديد من مؤسسات القطاع الخاص إلى تبني القانون من خلال تسريح النساء المقبلات على الزواج عبر إحالتهن إلى التقاعد المبكر. وحاولت مجلة «سبيكتاتور» البريطانية في تلك الفترة التبرير لقانون حظر عمل المرأة المتزوجة من خلال مقال لها نشر في اغسطس 1942 يضع عدة اسباب لذلك القانون منها وجود عائل للمرأة المتزوجة يغنيها عن الوظيفة مقارنة بالمرأة التي ليس لها عائل. بالإضافة الى عدم مرونة المرأة المتزوجة في قبول بعض الوظائف التي تأخذ من وقتها المخصص للأسرة. وساهم المناخ العام في تلك الدول بقبول قانون حظر عمل المرأة المتزوجة لوجود العديد ممن عادوا من الحرب العالمية الاولى يطالبون بالعمل بعدما لم يستطع سوق العمل استيعابهم في تلك الفترة. وتزامن ذلك مع انتشار عرف في الولاياتالمتحدةالأمريكية بتسريح العاملات عندما يقبلن على الزواج، كما منعت العديد من الشركات والمؤسسات النساء المتزوجات من فرص العمل. ولم يتوقف التمييز ضد المرأة المتزوجة في الولاياتالمتحدة الا بعد صدور قانون الحقوق المدنية عام 1964. وتشير «كلاوديا غولدن» في ورقة عمل لها عن قانون حظر عمل الزوجات- ضمن مجلدات المكتب الوطني الامريكي للأبحاث الاقتصادية في اكتوبر 1988- انه لم يتم إلغاء تلك التشريعات إلا بعد أن استعادت بنية القوى العاملة توازنها بعد انتهاء فترة الكساد الكبير الذي أصاب الدول الصناعية خصوصا أن تلك التشريعات لم تلغ في هولندا الا في عام 1957 ثم استراليا في عام 1970 وايرلندا في عام 1973. حيث توقف تطبيق حظر عمل النساء المتزوجات بعد أن استطاع سوق العمل استيعاب مجمل القوى العاملة من الجنسين نتيجة نمو اقتصادي فاق النمو السكاني. ولم تختلف التجربة التشريعية في فرنسا عن باقي الدول الصناعية، حيث ان القانون المدني الفرنسي الصادر في عام 1804 تأثر بالعادات والتقاليد الفرنسية. وقد اشار «جون بورتاليس»، احد مؤسسي تشريع القانون المدني الفرنسي، الى ان القوانين لابد لها ان تتبنى عادات وحالة الناس الذين يتم التشريع من اجلهم. ولذلك كان من المنطقي ان يترسخ مبدأ الزوج رأس العائلة في احكام القانون المدني الفرنسي، والذي منح الزوج سلطة على تصرفات الزوجة، حيث نصت المادة 213 الملغاة من القانون المدني الفرنسي على ان الزوج مدين بحماية زوجته وهي مدينة بطاعة زوجها. كما اشارت المادة 217 الملغاة الى ان تصرفات الزوجة القانونية مقيدة بموافقة الزوج، ويتضح ذلك من عدم قيام الجمعيات المهنية في تلك الفترة بالموافقة على الترخيص للزوجة لممارسة مهنة محددة دون الحصول على اذن الزوج. وتدريجيا راعى القانون الفرنسي تخفيف القيود على الزوجة من خلال تعديل بعض احكام القانون الفرنسي المتعلقة بسيادة الزوج على العائلة، ويقول «اندري تنس» في مقال له عن الزوج والزوجة في القانون الفرنسي- المنشور عام 1956 في مجلة القانون بجامعة بنسيلفينيا- ان ذلك تم عبر منح القضاء سلطة الرقابة على تصرفات الزوج لحماية الزوجة من تعسف الزوج عند استخدام حق مبدأ الزوج رأس العائلة. واستمرت التعديلات على احكام القانون المدني الفرنسي لتضع الزوجة في مكانة متقاربة مع مركز الزوج القانوني لتصبح الزوجة شريكة متعاونة للحفاظ على صلاح العائلة وتقوم بدورها في تربية واعداد الاجيال، كما اقر لها بالقيام بدور الزوج عند غيابه او ظهور احد عوارض الاهلية لدى الزوج. وبالرغم من ذلك الا ان التعديلات التي اوردها القانون المدني الفرنسي منحت القضاء رقابة اوسع على حق الزوج في منع زوجته من ممارسة مهنة محددة من خلال تقييم الحجج التي استند عليها الزوج في استخدام حقه وارتباط ذلك بمبررات دور الزوجة التربوي. وفي عام 1945 شكلت لجنة لمراجعة القانون المدني الفرنسي وتعديل القواعد المنظمة للاسرة، والتي ظهر فيها خلاف بين احد اعضائها وهو الدكتور «هنري مازو» استاذ القانون الذي اختلف مع بقية اعضاء اللجنة حول الغاء القاعدة التقليدية «الزوج رأس العائلة» مما دفع الاستاذ «هنري مازو» الى كتابة مقال بعنوان «عائلة بلا رأس» «Une Famille Sans Chef» منتقدا فيه التخلي عن هذا المبدأ في القانون المدني الفرنسي والذي كان احد اسباب استقالته من لجنة تعديل القانون المدني الفرنسي. وعندما اقرت التعديلات في عام 1954، اصبحت الزوجة في مركز متساو امام القانون مع الزوج والذي ادى الى تضييق حق الزوج في الاعتراض على عمل الزوجة من خلال وجوب اثبات تقصير الزوجة في الحفاظ على دور الاسرة قبل تقييد حقها في العمل مقارنة بالتشريع السابق الذي يفترض صحة ادعاء الزوج الى ان يثبت العكس. إن الملاحظ في تاريخ التشريعات الدولية هو الاتجاه العام لتخفيف القيود على المرأة العاملة ومنحها مساحة اكبر للمشاركة الاجتماعية طالما استطاع سوق العمل استيعاب المرأة العاملة دون الاضرار ببنية القوى العاملة. هذا الاتجاه لم يغفل عنه نظام العمل السعودي الذي حاول التأقلم مع مستجدات العصر الحديث دون الاخلال بالمبادئ والقيم التي نشأت عليها المرأة السعودية. ويتضح ذلك من تخصيص باب خاص لأحكام تشغيل النساء ورد فيه العديد من الاحكام التي تكفل بيئة مناسبة لعمل المرأة السعودية. ومنها المادة 151 والتي تمنح المرأة العاملة الحق في اجازة وضع بأجر كامل لمدة عشرة اسابيع مع امكانية التمديد لمدة شهر دون اجر، كما منحت المادة 153 الحماية الصحية للمرأة العاملة من خلال توفير الرعاية الطبية لها اثناء الحمل والولادة. بالإضافة الى تبني نظام العمل لحق الطفل في الرعاية من خلال إلزام صاحب العمل بتوفير مربيات في مكان مناسب لرعاية اطفال العاملات اذا كان لديه 50 عاملة فأكثر، ويتطلب من صاحب العمل انشاء او التعاقد مع دار للحضانة اذا كان لديه 100 عاملة فأكثر ويخضع ذلك الالزام لشروط حسب تقدير وزير العمل. وانفرد نظام العمل السعودي بمنح المرأة العاملة المسلمة حق اجازة العدة بأجر كامل لمدة لا تقل عن اربعة اشهر وعشرة ايام عند وفاة الزوج ولغير المسلمة اجازة العدة عند وفاة زوجها بأجر كامل لمدة خمسة عشر يوما، وذلك يعد استجابة لظروف طارئة تكفل حماية المرأة العاملة من تعسف المنشآت. وعند النظر الى مفهوم المرأة العاملة لا بد من استقراء التجارب الدولية لمعرفة رغبة المرأة العاملة بين خيار تحقيق التفوق المهني وبين خيار الدور التربوي في الاسرة. فالعديد من النساء يرغبون في الموازنة بين الامرين ويتضح ذلك في تجربة كل من عميدة كلية العلاقات الدولية واستاذة القانون في جامعة برينستون الدكتورة «آن ماري سلاتر»، وتجربة مديرة العمليات في فيسبوك «شيرل ساندبيرج». ولم يجد الباحثون في تجربة المرأة العاملة ما يثير الدهشة اكثر من ما وصفته الدكتورة «آن ماري سلاتر» والتي توقفت مؤقتا عن عملها الاكاديمي لتصبح مديرة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الامريكية. حيث اشارت في مقال لها في مجلة «اتلانتك» عن تجربتها المهنية التي كانت مليئة بمحاولات التوفيق بين دورها التربوي وبين سعيها لتحقيق التفوق المهني. وتوصلت «آن ماري» الى ان على المرأة العاملة ان تتوقف عن خداع نفسها لأن التي ستنجح في التوفيق بين الامرين لابد ان تكون امرأة ثرية او تعمل لحساب نفسها او امرأة ذات قدرات غير معتادة. وعندما لم تستطع «آن ماري» التوفيق بين الامرين اختارت التفرغ لقضاء وقت اكبر مع ابنها. وتقول في تجربتها ان العديد من النساء اللائي عملن في الخدمة العامة لم يستطعن الاستمرار في السعي للتفوق المهني بسبب شعورهن بأن العائلة اقرب اليهن من المهنة مثل «كارين هيوز» و«ماري ماتالين» اللتين عملتا كمستشارتين في الحكومة الفيدرالية، ويظهر اثر ذلك من تعيين رجال في تلك المناصب خلفا لهما. ومن المدهش ايضا في محاولات التوفيق بين التفوق المهني والاسرة تجربة مديرة العمليات في فيسبوك «شيرل ساندبيرج» التي اوجزتها في كتابها «Lean In» والذي شرحت فيه اسباب عدم استمرار نمو عدد المناصب القيادية الممنوحة للمرأة العاملة، ومن تلك الاسباب تنازل المرأة العاملة عن سعيها للتفوق المهني من اجل الاسرة وتربية الاطفال مما دفع العديد من المؤسسات في القطاع الخاص الى ادراج اسئلة تتعلق برؤية المرأة العاملة لخططها المستقبلية تجاه الاسرة خصوصا مسألة انجاب الاطفال لتحديد اثر ذلك على استقرار نشاط العاملين في تلك المؤسسات. ومن تلك التجارب يمكننا القول ان دور تشريعات العمل يقف عند منح المرأة العاملة الحق في الاختيار بين التفوق المهني وبين حياتها الاسرية اذا لم تستطع الموازنة بينهما، وطالما لم تتوافر للمرأة العاملة فرصة الشعور بالامومة فمن البديهي ان تبقى ساعية وراء التفوق المهني الذي قد يعوضها عن فقدان الشعور بالأمومة.