في تاريخ العرب الحديث ستبقى بعض الحوادث علامات فارقة إلى أمد طويل، من هذه الحوادث مسألة تفتت مؤسسة الدولة، وذوبان النظام، وغياب الرموز التي كانت تقود الدولة والمجتمع. أبرز تلك الحالات وأكثرها مأساوية ودرامتيكية تفتت النظام السياسي في العراق بالصورة التي يعرفها الجميع، وملاحقة رموز النظام وتصفيتهم. الحالة الثانية بعد النموذج العراقي ماحدث في ليبيا من قصة مشهورة مُحي فيها النظام الذي كان يسمى بالجماهيري، وطمس العلم ودمرت المرجعيات التي كان يعتقد انها فكرية وثقافية للمرحلة واعني بها الكتاب الاخضر والفكر الجماهيري، واللجان الثورية والسلطة التي قيل زورا إنها متاحة للناس في ظل وجود رمز للقيادة والثورة. في هذه الحالة ورغم انها لا تخلو من الدراما والعبث الانساني في زمن النظام وفي زمن الثورة، بقيت المفارقة شاخصة في غياب الرموز الاساسية وغياب الرموز البديلة أو التي كانت تُعد وتحضر لتكون البديلة ولكن في الحالة الليبية بقي شيء من رمزية السابق وتم التعاطي معه على انه غنيمة حرب أكثر من انه رمز على حقبة يجب محاكمتها واستخلاص حقوق الناس من تبعات تصرفاتها بالثروة ومستقبل البشر. ما اقصده بهذه الرمزية هو، أبناء القذافي الذين بقوا على قيد الحياة، وتعددت مصائرهم، ولعل اشهرهم سيف الاسلام القذافي، واركز عليه هنا لعدة اسباب منها أنه انتشر في البلاد الليبية مؤخرا حديث عن «وثيقة» تجيز طلب العفو عن سيف الاسلام القذافي، صادرة من رجل لم يعد على قيد الحياة - وزير سابق انتقل إلى رحمة الله-، ومن وزارة العدل، وهي موجهة إلى رئيس نيابة الزنتان، وتستند على ما قيل انه عفو اصدره مجلس النواب المنعقد في طبرق. قضية هذا الرجل ستظل واحدة من اشكاليات المجتمع الليبي في شكله الحقيقي المجرد من السلطة والدولة والمعتمد على التنافس القبلي والمناطقي، والقوة المتأتية من غنائم السلاح وتقاسم عوائد الثورة. الزنتان مدينة متوسطة السكان تقع جنوب غرب العاصمة طرابلس بحدود 160كلم، وجُلِبَ اليها سيف الاسلام كغنيمة حرب من غنائم الفريق المهزوم حينها، في نوفمبر 2011م وللتوضيح أكثر، فإن الرجل صدر بحقه حكم قضائي بالإعدام رميا بالرصاص هو، وآخرون في يوليو 2015م. حالة سيف الاسلام وهذا الوضع الغريب الذي يتشكل بين سلطة الدولة الاسمية وسلطة الميليشات الحقيقية يتضمن عنصراً منافسا هو المعطى الدولي المتمثل في مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتسليم سيف الاسلام لها، وكانت مطالبات هذه الجهة الدولية تتوجه إلى الحكومات المتعاقبة في ليبيا منذ القاء القبض على الرجل، واخيرا اصبحت مطالبات المحكمة الجنائية الدولية تتوجه لقائد عسكري يقال انه برتبة عقيد في الجيش الليبي ويعرف باسم العجيمي العتيري الذي تصفه مصادر ليبية اخرى بانه قائد ميليشياوي جهوي يتحكم بكتيبة عسكرية. بعيدا عن كل ذلك يتساءل البعض داخل ليبيا وخارجها عن سر هذه الليونة التي تبديها سلطات الزنتان لهذا الطلب!! وعن سر رفض طرابلس هذا الموضوع وإنكار مضمونه!! ربما هذه الظلال تعيد المتابعين للموضوع إلى ما انتشر في منتصف العام 2014م من ان الرجل أي سيف الاسلام وعبر تحالفات وتفاهمات قبلية وضخ اموال من الخارج يقال ان مصدرها اتباع النظام السابق، توصل إلى اتفاق على اطلاق سراحه، وحمايته من قبل جهات قبلية مناطقية، بعد عمليات مصاهرة في ضوئها تتم عملية اعادة ترتيب المشهد الليبي العام بعناصره القبلية والمناطقية ليكون ما يسمون باتباع النظام السابق ضمن تلك التسوية. أي القبول بهم. وهذا الامر وان كان ممكن الحدوث في مناخ ثقافي معين، إلا انه يوفر فرصا اكبر تشمل عناصر افضل لسلام اجتماعي اكثر عمقا ورسوخا، واعني به المصالحة الوطنية على أسس اكثر وضوحا وعبر قوانين تصدرها السلطات الليبية حال تعافيها وتمكنها من بدء ممارسة سلطاتها. أو ان ترعى الاممالمتحدة مثل ذلك التوجه وتذلل العقبات في طريقه كجزء من الحل الذي ترعاه في ليبيا. الموضوع يثير جدلا وربما هذا الجدل جزء من طبيعة شخصية سيف الاسلام نفسه الذي قدم نفسه وقدمه نظام والده، بطبيعة الحال بعد العام 1999م أي بعد رفع الحصار الأممي عن ليبيا قدم سيف على انه الواجهة التي يمكن ان تنقل ليبيا بمكونها التاريخي وارثها السياسي ونظامها الغريب إلى حالة الدولة المتصالحة مع باقي افراد الاسرة الدولية. ساعد سيف على ذلك مجموعة من الامور ربما بعده النسبي عن الممارسات العبثية وغير الأخلاقية احيانا التي كان يقوم بها الاشقاء من ابناء القائد، اضافة إلى ميله للتحصيل العلمي حيث سعى الى دراسة الماجستير في النمسا ودراسة الدكتوراة في بريطانيا، ويقال ان لغته الاجنبية الجيدة كانت واحدة من عوامل تواصله بعدد من القيادات السياسية والاقتصادية الغربية. في فترة من الفترات اصبح سيف ومن حوله من مساعدين، أصبحوا جميعهم اصدقاء للكتاب والمثقفين والصحفيين في الغرب على الخصوص وكانت فترة حاول فيها جاهدا دعوة الجميع لاكتشاف ليبيا التي أراد ان يخلقها في خياله. وايمان سيف بالحفاظ على مؤسسة الاب وتاريخ الاسرة جعله يُكَوّن مشروعه السياسي على نقاط مهمة حينها في حياة ليبيا والليبيين، وابرز خطوات تواصل سيف مع العالم الخارجي تمت لانقاذ الوضع داخل ليبيا تماما وتحسين صورتها في بعض الملفات ومن ذلك تصديه للتفاوض على تحرير الرهائن الغربيين في الفلبين من مجموعة ابو سياف. وتذكر كثير من المصادر انه دفع قيمة الفدية المالية من حساب مؤسسة القذافي العالمية للاعمال الخيرية. وتؤكد بعض المصادر التي تناولت موضوع الرجل في الحياة الليبية انه في مطلع العام 2000م كان يُعَوّل عليه من الداخل والخارج ليكون نموذجا اصلاحيا ليس في ليبيا بل في شمال افريقيا كلها. من خلال اعادة هيكلة النظام الذي كان يمر بحالات انسداد و تخبط. عودة لموضوع مذكرة اطلاق سراح سيف الاسلام القذافي، وانعكاسات ذلك على الاوضاع الدقيقة الان في البلاد الليبية، من الطبيعي ان يحدث انقسام حول ذلك. وسيكون الامر محمودا اذا بقي ذلك الانقسام على مستوى التعاطي في الرأي وعبر وسائل التعبير المتاحة والممكنة، كل الخوف ان يصبح هذا الامر شرارة جديدة لاطلاق موجة من الخلاف الحاد، الذي بالضرورة يقود إلى النزاع بين الليبيين وهم في الحقيقة وبعد هذه التجربة المريرة في غنى عن كل ذلك. أحد الحلول الممكنة لتجنيب الناس مصاعب اضافية، ولاتاحة فرصة جديدة للحالات من التعافي السياسي في ليبيا ان يكون موضوع أتباع النظام المحتجزين والمعتقلين وغيرهم من سجناء المرحلة الماضية ضمن ملف مصالحة عام وتوفر له رعاية اقليمية ودولية وقبل ذلك توافق ليبي في الداخل بين السياسيين والمناطق والقبائل. ويتم الانتهاء من هذه القنابل الموقوتة عبر التصالح او القضاء او أي شكل يتفق عليه من يريد اصلاحا في البلاد. لان هذا الوضع المتفجر سيبقى لغما ينسف جهود الداخل والخارج في حل ممكن على أرض ليبيا. وربما يتذكر الناس ان آخر خطاب لسيف الاسلام في 20 فبراير 2011م اقفل امام الرجل كثيرا من فرص اللقاء مع الليبيين، الخوف ان تقفل الابواب في وجه بادرة قد تمهد لحل ما في البلاد الليبية. مما يعني اطالة عمر الازمة ومعاناة الناس.