«تحب تفهم تدوخ» مثل ليبي شائع، يعبر عن إحدى أهم خصائص كواليس السلطة في ليبيا منذ سنوات وربما عقود. فكلما أمعنتَ في محاولة فهم ما يجري في تلك البلاد، ازددتَ تيهاً وضياعاً. ذلك أن ظواهر الأحداث لطالما كانت بعيدة كل البعد عن حقيقة ما يدور في بواطنها. وهذه ظاهرة مستمرة حتى اليوم، على رغم قيام انتفاضة 17 شباط (فبراير) 2011 وسقوط نظام العقيد معمر القذافي. يعتقد كثيرون أن القذافي لم يكن في الواقع ما أراد أن يوحي به طوال سنوات حكمه ال42، صورة «القائد الأممي المناهض للاستعمار»، لا بل يذهبون إلى حد اعتبار أنه كان «صنيعة أميركية» أو بمعنى آخر «حارساً أميناً» لمصالح أميركا وبريطانيا النفطية في بلاده. وإذا كانت تلك النظرية صحيحة، فلماذا أيدت دوائر الغرب الانتفاضة ضده ودعمتها حتى نهايته؟ عندما طبّع الأميركيون علاقاتهم مع القذافي أواخر عام 2003 عقب «تسوية» لوكربي، كان لدى واشنطن تصور لمستقبل ليبيا يتضمن خططاً لمشاريع ضخمة تخدم المصالح الاقتصادية للشركات الغربية. جمعتني صدفة في تلك الفترة مع مسؤول في الخارجية الأميركية مطلع على ملف ليبيا، وسألته عن مغزى استعداد واشنطن للتطبيع مع «ديكتاتور» يقمع شعبه ويتحدى سياسة الغرب في كل مناسبة. وكان جواب المسؤول أن واشنطن تملك خططاً اقتصادية لليبيا، لخّصها بالرغبة في أن يستثمر القذافي الثروة الطائلة التي كدسها، في إنشاء منطقتين للتجارة الحرة (في مصراتة والزاوية) وإقامة نهضة عمرانية تحول المدن الليبية، وجلها على ساحل المتوسط، إلى مراكز للتجارة والسياحة والسكن، تضاهي هونغ كونغ وشنغهاي وغيرهما. ومن شأن تلك المشاريع أن تتيح للشركاء الأجانب الدخول في استثمارات مربحة في ليبيا. (وكان الغربيون يعرفون أن القذافي كدس ثروة في الخارج تقدر بما يزيد عن 250 بليون دولار، يبدو أن معظمها تبدد أو أهدر بصورة مريبة منذ سقوط نظامه). وسألت المسؤول الأميركي: «هل هذا يعني أن المصالح الاقتصادية طغت على ملف حقوق الإنسان في ليبيا، وبات الغرب مستعداً لتجاهل قمع القذافي معارضيه وتصفيتهم وسجنهم ومحاربته حرية الرأي والتعبير بأشكالها كافة؟»، فأجابني بالقول: «لقد اتفقنا مع القذافي على العفو عن السجناء والمصالحة مع معارضيه بمن فيهم الإسلاميون المعتدلون، وإطلاقه حرية التعبير وإقامة مشاريع إعلامية». بدا هذا الكلام مقنعاً مع متابعة نشاطات أبناء الزعيم الليبي وهم يتقاسمون في ما بينهم تنفيذ تلك التعهدات، وأعلن نجله الساعدي (الذي كان وربما لا يزال محسوباً على بعض التيار الإسلامي) إطلاق مشروع منطقتي التجارة الحرة المذكورتين وتوسيع مرفأي مصراتة والزاوية لتحويلهما إلى محورين للتجارة الحرة إقليمياً. مشروع التوريث: «الجماهيرية الثانية»! في الوقت ذاته، تولى سيف الإسلام القذافي تنفيذ الشق السياسي من التعهدات فأطلق مشروعاً «ليبيرالياً - إصلاحياً» تحت مسمى «ليبيا الغد» وكان يأمل بأن يؤهله ذلك المشروع لخلافة والده على رأس السلطة في إطار خطة سياسية طموحة لتأسيس «الجماهيرية الثانية» نسبة إلى «الجماهيرية الأولى» التي أطلقها والده في ثمانينات القرن الماضي. انضم إلى مشروع «ليبيا الغد» عدد كبير من التكنوقراط الذين تولوا مناصب تمهيداً لعملية الانتقال، كما انضم إلى المشروع عدد من المعارضين الإسلاميين. وستلعب مجموعة «ليبيا الغد» التي ضمت أناساً مثل شكري غانم (اغتيل بعد الانتفاضة) ومحمود جبريل وغيرهما، دوراً محورياً في انتفاضة 17 فبراير وما تلاها. وكانت لافتة استعانة سيف الإسلام في صوغ بعض جوانب مشروع «ليبيا الغد»، بمؤسسة أميركية للاستشارات الاقتصادية والاستراتيجية يشرف عليها أساتذة في جامعة «هارفرد» للأعمال. لم تكن تراودني شكوك في «براغماتية» معمر القذافي واستعداده لإجراء صفقات من تحت الطاولة مع الأميركيين. وأذكر أنني في أواسط التسعينات من القرن الماضي، التقيت في لندن رئيس إحدى الدول الأفريقية بعد أيام من إطاحته وأجريت معه حواراً صحافياً. لكن أهم ما قاله ذلك الرئيس المخلوع على هامش الحديث وطلب عدم نشره لأسباب خاصة، أن الانقلاب عليه تم بتمويل من القذافي ودعمه وبطلب من الأميركيين! يقول أحد المسؤولين السابقين في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) إن موسكو لم تكن تعتبر القذافي حليفاً مبدئياً، بل كان مصدراً لأموال بالعملة الصعبة لقاء شرائه كميات هائلة من الأسلحة تكاد تكون «خردة». وكانت صحيفة «التايمز» اللندنية نشرت في مطلع التسعينات من القرن الماضي، تقريراً مفاده أن النظام الليبي يمتلك أربعة آلاف دبابة سوفياتية اشتراها من موسكو، فقط ليكدسها في موقع في وسط الصحراء. وكانت تلك الأسلحة السوفياتية الخفيفة والمتوسطة، تعطى لمجموعات من المرتزقة والمتمردين لتنفيذ عمليات تخريب في دول أفريقية عدة، لغايات لم تكن بعيدة من أجندات أميركية في المنطقة. لماذا تخلت الدوائر العالمية عن القذافي؟ الجواب يعود إلى شخصية القذافي نفسه وملابسات الصراع بين أبنائه (خصوصاً سيف والمعتصم الذي أسند إليه منصب مستشار الأمن القومي) وأيضاً الصراع بين «الحرس القديم» والمقبلين الجدد إلى السلطة عبر «ليبيا الغد». بعد انطلاق مشروع «ليبيا الغد» بفروعه الإعلامية والتنظيمية (بما فيها مؤسسة القذافي العالمية التي تولت المصالحة مع التيارات الإسلامية وبعض المعارضين)، ظهرت أصوات في أوساط «الحرس القديم» لتقول: «إن القذافي لا يستطيع التعايش مع هكذا مشاريع، فهو لا يهدأ له بال ولا يرتاح إن لم يحكم سيطرته مئة في المئة على مجريات الأمور وأدق التفاصيل»، كما أن القذافي «لا يحب أن ينفق الأموال على الليبيين، لأنه يعتقد أن ذلك سيكون بلا جدوى، فهو لا يعتبر القناعة صفة من صفات الليبيين ويرى أنهم مهما أُعطوا فسيطالبون بالمزيد، ولا شيء يرضيهم». لم يستطع معمر تحمّل مشروع «ليبيا الغد»، ساير على مضض، لكنه سرعان ما اتخذ قراراً ذات يوم بدهم مقر قناة التلفزيون «الليبية المستقلة» التابعة للمشروع، وأبلغ العاملين فيها إلحاقهم بهيئة الإذاعة الليبية، بعدما أخذت برامج القناة تثير جدلاً بتناولها مواضيع كانت تعتبر من «المحرمات» في الساحة السياسية الليبية. ترافق ذلك مع مماطلة ملحوظة في تنفيذ المشاريع «الإصلاحية»، والحد من صلاحيات معطاة لسيف ودفع أخيه المعتصم إلى الواجهة بقوة، وإيفاده إلى واشنطن حيث أجرى لقاءه الشهير مع وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون في مستهل عهد الرئيس باراك أوباما (نيسان/ أبريل 2009). بالتالي، وضعت خطة توريث سيف الإسلام القذافي في ثلاجة، ومعها مشروع «الجماهيرية الثانية» التي كان يفترض أن تؤسس لحكم النجل الثاني للعقيد. الثورة و «ليبيا الغد» عند قيام الانتفاضة في بنغازي في 15 شباط 2011 (والتي عرفت لاحقاً بثورة 17 فبراير)، انضم إليها تباعاً فريق «ليبيا الغد» بمعظمه إن لم يكن كله، ما عدا سيف الإسلام القذافي الذي تضامن مع والده، متغاضياً عن الصراع مع المعتصم بالله والذي وصل إلى حد تهديد الأخير شقيقه بالقتل، في أوج الحرب. قفز محيطون بالقذافي إلى مركب الثورة، ليتضح لاحقاً أن كثيرين منهم، محسوبون على دوائر خارجية سارعت إلى حمايتهم وتقديم ملاذات آمنة لهم بعد سقوط نظامه. تشتت شمل العائلة وافترق سيف الإسلام عن أبيه الذي غادر إلى سرت بصحبة المعتصم لمواصلة المقاومة، فيما فرّ من بقي من أفراد العائلة إلى الخارج. ووقع سيف الإسلام القذافي في قبضة ثوار الزنتان حيث لا يزال محتجزاً. لكن مصيره بقي في كل الأحوال، أفضل من مصير أبيه وشقيقه المعتصم اللذين لقيا حتفهما في ملابسات لا تزال تفاصيلها غامضة. ويتردد أن «الناتو» زرع عميلاً له في محيط القذافي أبلغ عن تحركاته في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2011، فتعرض موكبه لضربة جوية، قبل أن يعثر عليه الثوار، ويغتال برصاصة في الرأس (أطلقها عليه أحدهم)، لدى نقله إلى مصراتة بهدف احتجازه والاقتصاص منه. طويت صفحة القذافي وضمن حلفاؤه قبل خصومه صمته النهائي، ودفنت أسرار حكمه مع جثمانه في مكان سري في الصحراء. كل ذلك تم سريعاً بعد يومين من زيارة هيلاري كلينتون القصيرة طرابلس عقب «تحريرها» في 18 تشرين الأول 2011، وإيحائها بأن «تصفية» العقيد باتت أمراً ممكناً في ظل تعنته ورفضه الاستسلام. تقاسم الكعكة أعقب سقوط نظام القذافي كلياً بعد مقتله، قيام ازدواجية في السلطة بين ما سمي «التيار الليبيرالي» بقيادة محمود جبريل (أحد أبرز رموز ليبيا الغد) والتيار الإسلامي المتمثل ب «الإخوان» (والذين يؤخذ على بعض رموزهم الانضواء سابقاً تحت لواء ليبيا الغد). وفاز «تحالف القوى الوطنية» بقيادة جبريل، ب40 في المئة من مقاعد المؤتمر الوطني العام (البرلمان الموقت) فيما سعى حزب «الإخوان» إلى تعويض النسبة المتواضعة التي شغلها من مقاعد البرلمان (أقل من 20 في المئة)، بتقوية هيمنته في الشارع ووسط الثوار المسلحين من مناطق مختلفة في البلاد. لكن المشهد لم يقتصر على صراع «ليبيرالي - إسلامي معتدل» (ظل الإسلاميون المتشددون في منأى عنه)، إذ سرعان ما دخلت قوى الأمر الواقع «الجهوية» والقبلية طرفاً في التنافس على «الغنيمة»، وكلهم حملوا لواء «ثورة 17 فبراير» وسعوا إلى احتكار النطق باسمها. وازداد الأمر تعقيداً مع تصاعد النزعات الجهوية، وبروز دعوات إلى الفيديرالية في الشرق الليبي (بنغازي) لمقارعة المركزية باعتبارها ظاهرة بغيضة من ظواهر حكم القذافي الذي ركز حكمه في العاصمة. وحاصر بعض أنصار الفيديرالية منشآت النفط في الشرق الليبي ومنعوا تصديره، في محاولة لانتزاع الحكم الذاتي في «برقة» الاسم المستعاد لولاية الشرق قبل توحيد البلاد في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. وغرق الجنوب الليبي في الفوضى، وغابت منه مظاهر الدولة، وسيطرت في بعض مناطقه قوى قبلية، فيما ترك البعض الآخر، فريسة للمهربين والعصابات المسلحة. إن استعراض الواقع الليبي الحالي، يفيد بأن المخاوف من عودة بقايا نظام القذافي وفلوله باتت مستبعدة في الشكل التي كانت عليه، لكن ثمة من يتخوف من قوى أكثر حنكة وذكاء كانت جزءاً من مشروع «ليبيا الغد» ولا تزال تتواصل في ما بينها، على رغم ضربة قوية تعرضت لها، بإقرار البرلمان الموقت مشروع العزل السياسي الذي شمل جبريل وكثيرين آخرين ممن تولوا مناصب محددة في العهد السابق. فرموز «ليبيا الغد» التي قفزت من المركب الغارق، لا تزال تعتقد أنها الأكثر كفاءة وخبرة لإدارة البلاد، وأنها الأكثر قدرة على التوفيق بين الليبيين ومد جسور المصالحة الوطنية، بين مناطق وقبائل قدمت شهداء للثورة، وأخرى حاربت إلى جانب كتائب القذافي في مواجهة «حملة الناتو». في غضون ذلك يبدو المشهد متناقضاً أيضاً في هرم السلطة، حيث تحول المؤتمر الوطني معقلاً للإسلاميين، على رغم وجود غالبية ليبيرالية داخله، بعد «إقصاء» رئيسه السابق محمد المقريف الوجه الأبرز للمعارضة الوطنية الليبية وزعيم «جبهة الانقاذ» التي قارعت نظام القذافي طوال عقود. وحل محل المقريف في رئاسة المؤتمر وجه غير معروف هو نوري بوسهيمن في صفقة بين الإسلاميين ومجموعة من رجال الأعمال الذين استفادوا من حكم القذافي ثم استظلوا حماية مناطقهم بعد الثورة. في المقابل، آلت رئاسة الحكومة إلى علي زيدان وهو أحد أبرز حلفاء محمود جبريل ولم يتوانَ عن الظهور معه في مهرجان سياسي في طرابلس وبرفقتهما عبدالرحمن شلقم أحد أبرز رموز عهد القذافي ومندوبه لدى الأممالمتحدة والذي أعلن انشقاقه عن النظام وتأييده الثورة. مصيبة القذافي أبناؤه كان في وسع المراقبين أن يلاحظوا أن سلوكيات أبناء معمر القذافي وتطاحنهم على حصة من كعكة السلطة، شكلت المصيبة الأكبر لوالدهم، ذلك أن تشكيلهم قوى نفوذ داخل السلطة، أدى إلى إبعاد رجالات «الحرس القديم» ونفورهم من الواقع الجديد. وأدت تلك المعطيات إلى إضعاف سطوة العقيد على السلطة. منذ بداية الانتفاضة ضد معمر القذافي، نصب ما عرف ب «المجلس الانتقالي» نفسه وصياً على «ثورة 17 فبراير». رأس المجلس مصطفى عبدالجليل، وزير العدل المنشق عن حكم القذافي. وضم المجلس شخصيات عملت في البلاد في ظل نظام القذافي، وتم تطعيمه بوجه بارز من المنفيين في عهد القذافي وهو محمود شمام الذي عرف بمعارضته الشرسة لنظام العقيد. وأقصي من المشهد تدريجاً سائر المعارضين السابقين، على رغم لعبهم أدواراً بارزة في دعم الثورة. وظلت أسماء عشرات من أعضاء المجلس سرية بحجة دواع أمنية، إلى أن اتضح في ما بعد أن جلهم ممن كانوا على علاقة ما بسيناريو التوريث أي مشروع «ليبيا الغد». السلطة الانتقالية والتدخلات الخارجية في أواسط تشرين الأول الماضي، قدمت الديبلوماسية البرتغالية آنا غوميز، مقررة البرلمان الأوروبي حول ليبيا، شهادة مفادها أن «دولاً عدة» من بينها بريطانياوفرنسا وإيطاليا، تملك «استشاريين تجاريين في وزارات ليبية مهمة» في إطار تنافس تلك الدول على مصالح اقتصادية كبرى. وأشارت غوميز في شهادتها أمام البرلمان الأوروبي التي قدمتها بعد أيام من زيارتها ليبيا، إلى أن هذا التنافس التجاري يهدد الاستراتيجية الأمنية لتثبيت الاستقرار في ليبيا. والواقع أنه منذ قيامه، فتح «المجلس الانتقالي» الباب على مصراعيه أمام التدخلات والمصالح الخارجية، بحجة دعم الثوار. وجرى في تلك الفترة تبديد مبالغ طائلة من الأرصدة الليبية في الخارج، بذريعة تسديد التزامات على النظام السابق لمصلحة دول خارجية. وحتى الآن، لا يعرف أي من الليبيين، بمن فيهم المسؤولون، أين أنفق حوالى 200 بليون دولار (بعضهم يقدرها ب300 بليون) من الأرصدة التي وضعها القذافي في الخارج. إضافة إلى ذلك، استخدم أقطاب السلطة الجدد، «عدة الشغل» ذاتها التي استخدمها القذافي في سياسته «الميكيافيلية» لضرب أسافين بين الليبيين تحت شعار «فرّق تسد». وأصبح تمويل المجموعات المسلحة، من جانب أطراف داخلية وخارجية، الوسيلة الفضلى لضمان موقع في السلطة الجديدة. ودفعت الحاجة آلاف الشبان إلى الانضمام إلى تلك المجموعات لقاء مكافآت مالية، وضاع حلم قيام دولة القانون والمؤسسات التي تؤمن لمواطنيها العيش الكريم في دولة تملك مقدرات نفطية ضخمة، إضافة إلى امكانات واسعة في مجالات الزراعة والسياحة. وجرى إذكاء النزعات القبلية والجهوية التي لا يفترض أن يكون لها دور في حال قيام الدولة، في مشهد يعيد إلى الأذهان نظرية «الشعب المسلح» التي أطلقها القذافي لتعميم الفوضى، وإغداقه الأموال على شيوخ قبليين لضمان ولائهم واتباعهم. كل ذلك يعيد إلى الأذهان تحذيرات سيف الإسلام القذافي غداة الانتفاضة، من «صوملة» البلاد وتفتيتها وضياع ثروتها النفطية. ليس بإمكان الليبيين اليوم، ترجمة إرادتهم السياسية الجامعة في نيل أبسط حقوقهم في السكن والطبابة والتعليم، من دون الآليات الديموقراطية المناسبة لإنتاج طبقة سياسية مشكلة من نخبة من المخلصين والأوفياء الذين يعملون تالياً على استثمار مقدرات البلاد للتنمية وتحقيق تطلعات الشعب. ومن نافل القول إن الانتفاضة على حكم القذافي لم تكن نابعة من معارضة لتوجهاته الفكرية، بل كان هدفها محاربة التهميش والإقصاء والفساد الأمور التي نتج عنها فقدان فرص العمل والمساكن وتردي مستويات الرعاية الصحية والتعليم. في اللهجة الليبية هناك مصطلح شائع هو «الكولسة» ومفاده أن كل الأمور العامة يجري بتها في الكواليس والخفاء، وتبعاً لمصالح المتنفذين بمعزل عن المصلحة العامة للبلاد. وعلى رغم تغيير الأنظمة، ظل هذا النهج مستحكماً في أوساط الطبقة السياسية، وتحول النظام من حكم الفرد، إلى حكم القلة «الأوليغارشية» المستبدة، ما يشجع الفساد ويحول دون استفادة المواطنين من المقدرات الهائلة لبلادهم. سيف والزنتان مع مقتل معمر القذافي، اتجهت انظار من ظل على ولائه له من المواطنين العاديين، الى الزنتان حيث دارت رحى معركة من نوع آخر، بين المطالبين بإحضار نجله سيف الإسلام الى المحاكمة في طرابلس وبعض الدوائر الدولية التي تفضل ان يبقى في الزنتان اذا تعذر نقله الى مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي والتي كانت أصدرت خلال الثورة مذكرة جلب بحقه شملت والده ورئيس الاستخبارات في عهد الأخير عبدالله السنوسي القابع حالياً في سجن في طرابلس بانتظار محاكمته. وفي هذا السياق، يشكل موقف ثوار الزنتان الرافض لتسليم سيف الإسلام القذافي الى محكمة طرابلس، لغزاً بحد ذاته. اذ يبدو ان ثوار الزنتان وهي منطقة غرب ليبيا، يتمتعون باستقلالية في قراراتهم، برزت منذ تنافس الثوار على «تحرير طرابلس». وهم ايضاً يقيمون علاقات جيدة مع فرنسا واستقبلوا في أواخر شباط (فبراير) 2012 وزير دفاعها آنذاك جيرار لونغيه الذي خص منطقتهم بزيارة في اول رحلة لمسؤول فرنسي الى ليبيا بعد سقوط نظام القذافي. وتفيد معلومات متقاطعة، بأن موقف ثوار الزنتان لا يبتعد كثيراً عن موقف المحكمة الدولية التي تتريث في استرداد سيف الإسلام، في انتظار نشوء ظروف مناسبة تسمح بإقامة محكمة ليبية - دولية مشتركة لنجل القذافي على الأراضي الليبية، ما يوفر على كثير من الأطراف حرج كسر ارادة تبدو جامعة لدى بقية المناطق الليبية، في عدم السماح بمحاكمة أي من رموز عهد القذافي في الخارج. عقدة تاريخية كانت العقدة الاساسية التي واجهت تكوين الدولة الليبية منذ استقلالها عام 1951، هي استحالة وضع قانون ينظم عمل الاحزاب والتنظيمات السياسية في اطار المجتمع المدني. لم يتمكن الملك الراحل ادريس السنوسي من وضع قانون للاحزاب، ما جرد المشهد السياسي من أهم مقوماته التمثيلية في النظام الديموقراطي، وأمضى الملك الراحل عهده في محاولة التصدي لتسلل القوى الاقليمية الى الساحة عبر اذكاء النزاعات الجهوية، على رغم قيامه في عام 1963 بخطوة دراماتيكية هي الغاء النظام الاتحادي بين الولايات الثلاث (طرابلس وبرقة وفزان) لتدارك التجاذبات بين القوى المناطقية في البلاد والتي وحدها الآباء المؤسسون للدولة وبينهم السنوسي، بفضل نفوذهم وتاريخهم النضالي والكاريزما التي تمتعوا بها. وكذلك، تجاهل معمر القذافي منذ وصوله الى السلطة عام 1969، الفراغ الخطر على صعيد تنظيم الاحزاب، بل فرض حزبه الأوحد على البلاد، من خلال نظرية «السلطة الشعبية». وفي السياق ذاته، أقدم «المجلس الانتقالي» عقب سقوط القذافي على اعلان التحرير في شكل مسرحي فارغ المضمون، ولعل الذين يذكرون بنود هذا الاعلان من جانب عبدالجليل في بنغازي في 23 تشرين الاول (أكتوبر) 2011، لا يتذكرون منه سوى تشديد رئيس «الانتقالي» على حق الليبيين في تعدد الزوجات! وقدم «المجلس» لاحقاً اعلاناً دستورياً «هزيلاً» دعا خلاله الى انتخاب المؤتمر الوطني العام (البرلمان الموقت). وأجريت الانتخابات في شكل فوضوي في 7 تموز (يوليو) 2012 وفي غياب أي قانون ولو موقت ينظم عمل الاحزاب، واقتصر الامر على بعض شروط الترشيح وطريقة تنظيم عملية الاقتراع وتقسيم الدوائر، وتم التغاضي كلياً عن ضرورة حظر الدعم الاجنبي للتكتلات والقوى السياسية، ما ترك الساحة عرضة للتدخلات الخارجية. * كاتب من أسرة «الحياة»