في العصور الوسطى نهضت المجتمعات البدائية على أكتاف العائلة، ثم مع تسارع الزمن كبرت العائلة فتحولت لعشيرة، ثم شاء الله أن تجتمع العشائر في تجمعات حضرية مشتركة، بحثاً عن حياة مستقرة. في البداية، لم يكن هناك ما يجمع هؤلاء القوم، الذين كان التناحر ديدنهم، ولم يألفوا الاجتماع على مصلحة متبادلة، سوى وجود «إله» مشترك يوحدهم، ويخلق لهم هوية تُمكنهم من الالتفاف على بعضهم البعض. كانت كل حاضرة تُميز ذاتها بارتباطها بإلهٍ خاص، مقابل آلهة الآخرين، «وكان المواطن هو بالتعريف ذاك الذي يشارك في عبادة الحاضرة، وكانت المشاركة في العبادة هي مصدر حقوقه الدينية والسياسية جميعاً»، وكان الخروج من الجماعة الدينية يعني الخروج على الإله كذلك، وبهذا يُصبح تمرد الفرد على الجماعة تمردا على دينها أيضاً، وحينما يسعى المنشق للانضمام لجماعة جديدة، فإنه يعامل معاملة العبد، ما لم يدخل في دينهم. مع توسع العمران توسعت الحواضر، فتنوعت الأمم وتعقدت العلاقات البشرية مع تعقد سُبل العيش. نهضت الإمبراطوريات، كي توحد الأمم تحت مظلة دين واحد، بحيث تضم في أحضانها أمما مختلفة ومتنوعة، لكن التوحيد يقوم من خلال وحدة الديانات التوحيدية، وتحديداً المسيحية، لتشكيل علاقة جديدة داخل الإمبراطورية، بسبب وجود سلطتين: السلطة الدنيوية التي كانت في يد الإمبراطور، والسلطة الروحية في قبضة الكنيسة؛ ولأن المسيحية تقوم على الوحدة والتبشير، فقد اضطرت لخوض حروبها الصليبية، من أجل توحيد الناس في سلطة واحدة، لكن المسيحية لم تبق موحدة هي الأخرى، وانقسمت في طوائف متقاتلة خاضت هي كذلك حروبها الطائفية. إذن، مع تشابك المصالح وتعقد حياة المجتمعات الحديثة، لم يعد الدين عاملا موحدا للشرائح الاجتماعية، خصوصاً، مع اختلاف المصالح الاقتصادية، وتضاربها، وتعدد التفسيرات الدينية وتنافرها، بل أضحى عامل فتنة وشقاق لدى بعض الدول. تطورت المجتمعات الأوروبية بعد الثورة الصناعية، فبرزت حالات اصلاحية داخل المجتمعات الأوروبية التي سئمت النزاعات المنبثقة عن السلطة الدينية، فتوجت الحركة الإصلاحية نفسها بالثورة الفرنسية، وبفصل الكنيسة عن سلطة الدولة، من خلال فرض سيادة القانون والمساواة بين المواطنين عبر إعلاء قيمة المواطنة. عمد منظرو عصر الأنوار، لكتابة نصوص سياسية فلسفية، ساهمت في تنظيم العلاقة بين الدولة والكنيسة، على قاعدة الحد من سلطة رجال الدين ونفوذهم على الدولة والمجتمع، فجرى البحث عن مخرج لموقع رجل الدين في النظام، ثم لموقع الدين نفسه داخل الدولة. انتهى بهم الحال، أن أصبح رجال الكنيسة مواطنين متساوين مع بقية أفراد المجتمع، وأصبح الاعتقاد الديني مسألة شخصية، مع الإبقاء على قيمه حاضرة، حتى أن بعض المفكرين يذهب للقول إن العلمانية هي «عقلنة للمسيحية». في الوطن العربي، لا يزال الدين وسيلة لبعض السلطات والجماعات، مع كل ما جرّت هذه السياسة من ويلات على دولنا العربية. الدولة كمؤسسة هي الحلقة المفقودة في الممارسة السياسية، وغيابها يعني المزيد من التشرذم والتشظي.