تتسارع الأحداث في مصر لكنها دوماً في مربع محاصر بالأزمات والمشكلات، حتى تبدو وكأنها لا تتحرك إلى الأمام. فالأمل بالتوافق على الدستور يتراجع، والانفلات الأمني في سيناء ومشكلات الاقتصاد والانقسام السياسي كلها عوامل تقلص من قدرة الحكم الجديد على لجم العدوان الإسرائيلي على غزة، واتخاذ مواقف حقيقية تميزه عن نظام مبارك. وفي سياق هذه الأزمات وقع الحادث المأسوي الذي أودى بحياة 51 طفلاً في أسيوط ليذكر الجميع أن مصر بعد قرابة عامين من الثورة لم تتغير، فالإهمال مستمر، وكوارث القطارات متواصلة بغض النظر عن بلاغة خطاب رجال الحكم الجديد عن النهضة والإصلاح . مربع الأزمات شهد بارقة أمل وحيدة، والمفارقة أنها جاءت من داخل الكنيسة المصرية بتنصيب الأنبا تواضروس الثاني ليكون البابا 118 لأقباط مصر، خلفاً للبابا شنودة الذي توفي قبل ثمانية أشهر حاسمة في تاريخ مصر، شهدت أول انتخابات رئاسية تعددية، والانقلاب الناعم للرئيس مرسي على المجلس العسكري، وإعادة تشكيل تأسيسية كتابة الدستور، علاوة على استمرار بعض المشكلات داخل الكنيسة، والأهم علاقتها بالحكم الجديد والمد السلفي الذي يؤرق قطاعات واسعة من المسيحيين ويدفع بعضهم للهجرة. وتساعد استعادة الكنيسة رئيسها الروحي في حل كثير من المشكلات، وهنا يمكن القول إن البطريرك الجديد يواجه خمسة ملفات صعبة تتطلب منه اجتهاداً وتجديداً فكرياً وإدارياً لا بد بالضرورة أن يطاول أموراً دينية. بعبارة أخرى على البابا تواضروس الثاني أن يغير من الكنيسة ويتمرد في هدوء محسوب على نهج سلفه، وتكون له رؤيته وبصمته الخاصة حتى يستطيع التعامل مع المتغيرات المجتمعية بعد الثورة وتساهم الكنيسة في تشكيل مستقبل مصر. الملف الأول: يتعلق بمشكلات أجنحة وتيارات داخل الكنيسة وصراعاتها نتيجة اختلاف في الآراء بشأن أمور تنظيمية وإدارية، في مقدمها تجديد دماء قيادات الكنيسة وتطوير أساليب العمل في مجالات الخدمة الاجتماعية والتعليم والبحوث والدراسات المسيحية، إضافة إلى ضرورة الحوار والتعامل مع المذاهب المسيحية الأخرى، بعد أن شهدت قدراً من التوتر والاستقطاب على خلفية تصريحات متشددة من بعض القيادات الكنسية. ولا شك في أن تفكيك هذه المشكلات يتطلب مواجهة حاسمة مع عدد من مراكز القوى داخل الكنيسة، ما يعني أنها ستكون أول اختبار جاد لقدرات ومهارات البابا الجديد الذي أصدر مؤلفات عدة جيدة في الإدارة الكنسية. الملف الثاني: التعامل مع الحكم الجديد بقيادة «الإخوان»، المتحالفين حتى اليوم مع السلفيين، وهي خبرة جديدة على مصر مسلمين وأقباطاً، تتقاطع مع زيادة وتيرة تديين السياسة، وحصار مدنية الدولة وقيم المواطنة. وهي أمور تثير قلق ومخاوف القوى المدنية والأقباط، خاصة مع الاستقطاب حول كتابة الدستور، لكن مخاوف الأقباط أكثر إلحاحاً وضغطاً على الكنيسة، ما يدفع البابا الجديد إلى الاستجابة لها في تعامله مع الحكم الجديد، ما يعني إقحام الكنيسة في الشأن السياسي، وهذه إشكالية من الصعب على البابا الجديد تجاوزها ولو توافرت له الرغبة في تقليص الدور السياسي للكنيسة أو إنهائه. وهناك فارق كبير بين الرغبة والقدرة، فغالبية رجال الكنيسة وغالبية الأقباط تعودوا خلال أكثر من 40 عاماً على قيام الكنيسة بالتفاوض السياسي باسمهم، كما أن غالبية الأقباط تعتقد بعدم توافر بدائل مقنعة ومؤثرة تدافع عن مصالحهم في الساحة السياسية. باختصار أعتقد أن المناخ العام لا يساعد البابا الجديد على تغليب الروحي على السياسي في تعامله مع الحكم الجديد الذي يستند أصلاً في مشروعيته إلى ما هو ديني، وأتصور أن منظور الإسلام السياسي التقليدي للحكم الجديد سيشجع الكنيسة عملياً على استمرار دورها السياسي كممثل للأقباط، وهو الدور الذي لعبته منذ تموز (يوليو) 1952. لكن يظل أمام البابا الجديد مساحة أو هامش للمناورة للتخفيف من الحمولة السياسية الزائدة للكنيسة، والانسحاب التدريجي من خلال تشجيع الأقباط علي المشاركة السياسية وخوض الانتخابات ضمن نظام القوائم الذي أتاح وللمرة الأولى نجاح العديد من الأقباط في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. الملف الثالث: احتواء التيار العلماني من خلال الحوار والتفاعل بدلاً من الإقصاء والحروب الكلامية التي شابت علاقة الكنيسة مع العلمانيين في السنوات الأخيرة، ويقصد بهم المسيحيين من غير رجال الدين، أي أن المفهوم هنا مغاير لفزاعة العلمانيين «الكفرة» التي يستخدمها الإسلامويون ضد الليبراليين واليساريين. ويطالب التيار العلماني المسيحي بعدم تدخل الكنيسة في السياسة، وتغيير نظام انتخاب البطريرك الذي تحدده لائحة قديمة صدرت عام 1957 ولا تستوعب زيادة تعداد الأقباط في مصر والمهجر، كما يطالبون بإعادة النظر في الحالات التي يسمح فيها بالطلاق، إضافة إلى إشراك المدنيين في إدارة الأوقاف والخدمات الاجتماعية وبعض أمور الكنيسة. ورغم ضعف التيار العلماني وعدم جماهيريته إلا أن كثيراً ممن يطالب به يلقى ترحيباً بين الشباب، لأنه يستجيب لمتطلبات التغيير ومناخ الثورة، لكن يظل لشباب الأقباط مسار مستقل عن التيار العلماني، وحساسية خاصة به. الملف الرابع: احتواء الشباب وبناء جسور ثقة مع الكنيسة، وإشراكهم في تجديد شبابها من دون محاولة توظيفهم لتعظيم الدور السياسي للكنيسة، فالمطلوب هو دعمه روحياً. ويمثل الشباب أغلبية الأقباط، وهم جزء أصيل من شباب مصر الذي صنع الثورة وقدم التضحيات إلا أنه يشعر بالتهميش بعد الثورة، تماماً كما كان قبل 25 يناير، والحقيقة أن شباب الأقباط الذي شارك في الثورة من اليوم الأول قد تمرد على سلطتين: الأولى هي الكنيسة التي عارضت التظاهرات، والثانية سلطة مبارك، وشارك الشباب القبطي في أحداث الثورة وموجاتها المتوالية باعتبارهم مواطنين، وبالتالي جسدوا عملياً فكرة المواطنة والاستقلال عن التوجيهات السياسية للكنيسة، لكن تعثر المرحلة الانتقالية وأخطاء العسكر وبعض الأحداث الطائفية، علاوة على المد السلفي، دفعت قطاعات مؤثرة من الشباب القبطي لتشكيل ائتلافات وجماعات خاصة بهم، لا تخاصم التيار الوطني العام بل تشاركه في قضايا الوطن، لكن مع إبراز الهوية القبطية الخاصة والدفاع عن حقوق المواطنة والدولة المدنية. في هذا السياق تشكل ائتلاف شباب ماسبيرو، وحركة مينا دانيال، وأقباط من أجل مصر، وأقباط متحدون وغيرها من التنظيمات التي تشكل ظواهر جديدة في الحياة السياسية المصرية عامة وفي المشاركة السياسية والتنظيم الذاتي للأقباط. الملف الخامس: وقف نزيف الهجرة للخارج والذي ارتفعت مؤشراته بعد فوز الإخوان والسلفيين بالانتخابات البرلمانية العام الماضي. وكي لا أبالغ، فإن حلم الهجرة يراود غالبية المصريين، إلا أن معدلات تحقيق الحلم تبدو مرتفعة بين الأقباط الذين يلتحقون بذويهم في الخارج، خاصة أميركا وأستراليا، إضافة إلى أن بعض الكنائس تقدم خدمات لتسهيل الهجرة، ما يتعارض وتصريحات البابا الجديد المعروف برفضه للهجرة من الوطن. من هنا أتوقع أن ينال هذا الملف اهتمام البابا الجديد والمعروف باعتزازه بالعروبة وبدور المسيحيين في المنطقة العربية. الملفات الخمس تشكل أهم التحديات التي تواجه البابا تواضروس الثاني، وهي أول اختبار حقيقي لقدراته على قيادة الكنيسة والشعب القبطي في مسار جديد، وبمنهج خاص بشخصيته الهادئة والحكيمة، منهج يجدد من خلاله حيوية وفاعلية أقدم كنائس العالم، وأعتقد أن التكوين الروحي والتعليمي والثقافي المتنوع للبابا الجديد إضافة إلى خبراته الروحية الإدارية تعظم من فرص نجاحه، فقد درس الصيدلة في جامعة الإسكندرية إبان الحركة الطلابية النشطة في مطلع السبعينات، كما قضى عامين للدراسة في بريطانيا، ونجح في إدارة عديد من الملفات الصعبة في الكنيسة حيث كان أسقف عام محافظة البحيرة التي يحظى فيها الإخوان والسلفيون بحضور طاغ، لكن هذا النجاح ارتبط بقيادة وتوجيهات الأنبا بخاميوس –الأب الروحي للبابا الجديد-، فهل يستطيع تواضروس التلميذ أن يكرر نجاحه، وعلى مستوى مصر، بعد أن صار أباً لأبيه؟ * كاتب مصري