ثمة شوق خفي لا يمكن أن نسمع صوته إذا زاد التصاقنا بالناس وضوضاء أفكارهم حتى ولو كانوا من المقربين، وأحيانا يلزمنا الانعزال عن ضجيج العالم لنكون قادرين على البدء رويدا رويدا باكتشاف ذواتنا والتعرف أكثر على حقيقة نقائصها ودوافعها المحركة، وتمظهرات الأنا في قراراتنا. تحتاج الروح لخلوة وجلوة، وشيء من الانعزال التكتيكي للتواصل الناضج مع الذات والقيام بعملية تقييم دورية جوهرية، وكم هو منعش للنفس أن ترحل عن الضجيج من حين لآخر لترتمي ساجدة عند خالقها مستشعرة عجزها، غاسلة همومها بدعائها ودموعها، فعندما نبتعد عن ذواتنا الحقيقية لمسافات بعيدة جدا تدفعنا فيها الدنيا دفعا فنسقط مرضى بمشاغلها، مرهقين بملذاتها، حينها يصبح الاعتكاف عظيما وعذبا لأقصى حد. ليس من إنسان يستطيع أن يلمس سره الوجودي ما لم يلون حياته بالاعتكاف من حين لآخر. فالاعتكاف هو مدرسة العبقرية، والمتتبع لسير حياة المفكرين والقادة الروحيين والمبدعين يجد أن غالبيتهم ينتحون إلى قضاء شطر كبير من وقتهم في خلوة، كما يذهب المؤرخ البريطاني توينبي إلى أن العزلة والاعتكاف شكلا قانونا نفسيا لاكتشاف الحقائق عند الأنبياء والمصلحين. هكذا كان صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة، وكذلك انسحب عيسى عليه السلام إلى الخلاء ليصوم أربعين يوما، واستعداد موسى عليه السلام في صحراء سيناء قبل مواجهة بطش فرعون. لِم الاعتكاف؟؟ للالتفات للداخل، لمراجعة الذات، للصمت الحكيم مع النفس، والمكاشفة الصادقة في محاولة مخلصة للفهم واعادة ترتيب العالم الداخلي، وهذا ما جعل العالم النفسي بلزاك يؤكد أنه: «كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة وفيما يتعرض له من متاعب نفسية وجدت أن معظم شقاء الناس راجع إلى عجزهم عن الاعتكاف مع الذات». هناك قدر كبير حولنا من الفوضى والركام الشعوري، المفاهيم العشوائية، الأحكام على الآخرين، الغيبة والنميمة، الثرثرة بلا هدف، التوتر والغضب الشديد، الذكريات السلبية، وتخيل لو أن هذا الحطام العقلي يطفو على سطح بحيرة، فهل سيكون من السهل علينا السباحة فيها أو التمتع بالنظر إلى مياهها الرقراقة ؟؟ توقف عن الركض، غادر الزحام وارحل بعيدا، خذ وقتك لتلملم أفكارك، ابحث عن مكان هادئ واخلع نعليك واستمع، فالإجابة في الداخل لكن الضجيج الخارجي يطغى على صوت حكمتك الجوانية، ولابد من تهدئة القرد العقلي الذي يقفز من فكرة لأخرى، والتدرب على تركيز الوعي للوصول إلى نقطة الروحي ومواجهة جبروت الأنا.