القانون العام، في تاريخ المجتمعات الإنسانية، هو الحركة والتراكم، ورفض السكون. وبديهي القول إن طبيعة التطور تقتضي القيام بمراجعات وتقييم مستمرين، لما هو سائد من آليات وخطط وبرامج عمل، بما يسهم صعودا في تحقيق قدر اكبر من الكفاية الإنتاجية، وتوفير فرص العيش الكريم لجميع أبناء الوطن. وما كان صحيحا بالأمس يمكن أن يكون قد استنفد أغراضه، وبات يشكل عبئا وإعاقة للمستقبل. في هذا السياق، يمكن وضع الرؤية السعودية الجديدة، رؤية 2030، التي أقرها مجلس الوزراء السعودي، والتي وصفها خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، يحفظه الله، باعتبارها مرحلة تحول وطني، وانطلاقة جديدة. و كما قال سمو ولي العهد الأمين، الأمير محمد بن نايف هو أن يكون «الجميع شركاء في تنفيذ الخطة، وسنجني ثمارها بعون الله». وهي كما تم توصيفها من قبل سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان: «نقطة انطلاق لسعودية أقوى تحقق طموح الجميع». وشرط نجاحها. ولعل وعي المواطن السعودي، بأن بالإمكان توفير أفضل مما كان، هو سبب الاحتفاء الوطني الكبير والواسع، والذي شمل كافة شرائح المجتمع، بالإعلان عن الولوج بالمرحلة الجديدة. وأيضا الاهتمام الكبير من قبل صناع القرار السياسي والاقتصادي، على المستوى الدولي والإقليمي والعربي. فمدير إدارة الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، مسعود أحمد وصف الرؤية السعودية الجديدة، بأنها استجابة جيدة للتحديات التي تواجه الاقتصاد السعودي. في حين نوه ستيف لوتس، المدير التنفيذي لشؤون الشرق الأوسط، بغرفة التجارة الأمريكية، ستيف لوتس بالقول إن مساعي السعودية، لتنويع اقتصادها وتبني خطة تضعها على طريق المستقبل، أمر مشجع. ووعد بدور للغرفة التجارية الأمريكية، في التشجيع على رفع الوعي، بين الشركات الأمريكية الباحثة عن فرص جديدة للاستثمار في السعودية. أما الصحافة الغربية، ومن ضمنها صحيفة التلغراف البريطانية، فنوهت بالتوجه السعودي الجاد نحو تعزيز دور المرأة، وفقا لبرنامج التحول الوطني، في سوق العمل بالمملكة. ووصفت رؤية 2030 بأنها أكثر حدث في السعودية مند عام 1938م. لقد لعبت المرأة السعودية، بالإضافة إلى دورها الرئيس كزوجة وأم ومربية، دورا رئيسيا في قيادة مؤسسات التربية والتعليم، وفي القطاع الصحي والمصرفي. وقد أكدت حضورها المبدع، في مجالي الفكر والأدب. وقد حان الوقت لتكون شريكا في بناء الوطن في كثير من المجالات، بما يسهم في الدفع بمسيرة البناء والتنمية في بلادنا الغالية. وليس غريبا أن تكون محورا هاما في عملية التحول الوطني، الذي يتم وفقا للرؤية السعودية الجديدة. عربيا علق العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني بن الحسين بن طلال على الرؤية السعودية الجديدة، وأشار في معرض تعليقه عليها، أنه وجد لدى الأمير محمد بن سلمان رؤية مستنيرة وشجاعة. أما ولي عهد دولة الإمارات العربية الشقيقة، الشيخ محمد بن زايد فوصف الرؤية السعودية الجديدة بالطموحة، وأكد على أن نهج بلاده هو التكامل مع السعودية. حملت الرؤية عناصر كثيرة، من شأنها في حال تطبيقها أن تجعل المملكة، وفقا لتوقعات الأمير محمد بن سلمان، في لقائه مع قناة العربية، من أهم محركات الاقتصاد العالمي، حيث ستشمل تنفيذ قائمة من الأهداف تغطي جميع المجالات. لم تكن الرؤية الجديدة، نتاج لحظة تأثر بتراجع دخل المملكة من النفط، بل نتاج وعي عميق وشامل بالأزمة الحقيقية، التي يرتبها الاعتماد شبه الكلي، على عنصر واحد، من مصادر الدخل القومي. صحيح أن المملكة تملك حاليا أكبر احتياطي للنفط في العالم، وأنها هي الدولة الأكبر تصديرا له في العالم بأسره، لكن ذلك ينبغي في كل الأحوال، أن لا يحجب عنا حقيقة أن النفط، مهما يكن مستوى الاحتياطي الذي لدينا منه، هو مادة استخراجية قابلة للنضوب بعد حين. وأن مستقبلنا سيكون في مهب الريح، ما لم نتهيأ منذ الآن ونضع لمرحلة نضوبه، مستلزماتها. وعلى هذا الأساس، فإن الرؤية السعودية لعام 2030، هي عملية استباقية مبدعة وخلاقة، تعمل على احتواء تأثيرات ما هو محتم وقوعه بالمستقبل. وخلق مصادر أخرى للدخل الوطني، ترفع عن الوطن والمواطن، حالة القلق الدائم، الذي يتسبب فيه الارتفاع والانخفاض في أسعار السلعة الوحيدة، التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني، وتعمل على إيجاد بدائل أخرى عنها، أو على الأقل تكون موازية لها في هذه المرحلة، لنتهيأ إلى ما بعدها في المستقبل. لقد أدى النفط، في بلادنا وظيفته باقتدار، وأسهم بجدارة في بناء دولة عصرية، يحسب لحضورها في كل المحافل الدولية. لقد تحولت البلاد بفعل الاستخدام الذكي والمتوازن للثروة النفطية، من بناء صروح علمية، وتطوير القطاع الصحي، وأوصلت الكهرباء وخطوط الاتصال، إلى أبعد نقطة في هذه البلاد مترامية الأطراف. كما مكنت من إيجاد بنية تحتية راسخة، قل أن يوجد لها نظير، في العالم بأسره. وكان لمرحلة البناء حضورها القوي والمباشر على الخدمة التي تقدمها المملكة، بفخر ومحبة للمعتمرين ولحجاج بيت الله الحرام. وكان أهم معلم في هذا السياق، هو التوسعة الكبرى لبيت الله الحرام. وبنت السعودية، جيشا قويا، أسهم في الدفاع عن أمن البلاد، وشارك في المعارك الوطنية والقومية، دفاعا عن الأمن القومي العربي. وكانت عاصفة الحزم، ذروة عطائه وبسالته. كما تم بناء القوات الأمنية، بمختلف تشعباتها لتواجه الإرهاب، الذي استفحل في منطقتنا بالسنوات الأخيرة. وقد سجلت هذه القوات ملاحم بطولية اعترف بها الصديق والعدو. وقد جعل ذلك، بحق، من بلادنا واحة للأمن والاستقرار. لكن لكل رحلة بداية ونهاية. لقد كان موعد الانطلاق الاقتصادي، والاتجاه بفاعلية قوية نحو المستقبل، بالاتكاء على بنية تحتية قوية، وعلى مؤسسات متينة ودولة عصرية. أنها مرحلة طي صفحة الاعتماد الكلي على المنتج النفطي، عبر رؤية خلاقة ومبدعة، حيوية ومرنة. لقد تبلورت فكرة الانتقال من المرحلة النفطية إلى ما بعدها، منذ وصول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز للموقع الأول، في قيادة البلاد. وقد تبلورت فكرة الانتقال هذه، على مدى يتجاوز الأربعة عشر شهرا، وانطلق المشوار بخطوات ثابتة وراسخة، عبرت عنها عدة مراسيم ملكية، حددت ملامح طريق المستقبل. لكن ما حدث هذا الأسبوع، هو الإعلان عن الانتقال الشامل. وتحديد خطة العمل، بكل مخرجاتها. ولذلك يصعب الحديث عن مجرى التحول الوطني، وربطه في جانب واحد مهما تكن أهمية هذا الجانب. فحين نأتي على سبيل المثال، إلى موضوع الخصخصة، ليس الهدف من الرؤية الجديدة منها، هو خصخصة النفط، والفعاليات الاقتصادية الأخرى، من غير ربط ذلك برفاهية الإنسان وتحسين أوضاعه الاقتصادية. إن طرح نسبة الخمسة في المائة من القطاع النفطي في سوق الأسهم، لا يهدف إلى ضخ أموال، أيا يكن قدرها في خزينة الدولة فقط، بل هي تحقيق عملي لمفهوم الشراكة، بين المواطن والدولة. فالمساهم سيكون عمليا شريكا في ملكية القطاع النفطي بقدر بما لديه من أسهم. وذلك ما سوف ينقل الحالة الاقتصادية، من حالة اقتصاد الريع، إلى الاقتصاد الفاعل، الذي يقحم كل المواطنين في أنشطته. الخصخصة بمردها، قد لا تكون فعلا إيجابيا، إلا إذا ترافقت بمشروع وطني كبير، ينتقل بالبلاد من حال الاعتماد على مصدر واحد، إلى دولة صناعية متقدمة، قادرة بصادراتها على التنافس مع أفضل السلع في الأسواق العالمية.. والحال كذلك، حينما يتم رفع الضرائب على المنتجات الترفيهية، فإن البلاد تنتقل من الحالة الاستهلاكية، إلى الحالة الانتاجية، التي يتحول فيها المواطن إلى ترس فاعل، من متاريس التنمية والبناء. والهدف أولا وأخيرا، هو بناء الإنسان، وتعزيز كرامته، التي أعزه الله سبحانه وتعالى بها. وحقه في الحياة وفي النماء. لقد طرح سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مؤتمره الصحفي الكثير والكثير، مما يثلج الصدر. فأشار إلى بناء جيش سعودي قوي. تحدث عن الينبغيات في صيغة برامج واضحة، فأشار إلى أن بلادنا تحتل الرقم الرابع عالميا في مشتريات السلاح. وأن البلاد ستدخل بقوة في مرحلة التصنيع العسكري. ويتطلع المواطن السعودي، في هذا الاتجاه، إلى مرحلة قريبة جدا بعون الله، لا يتحقق فيها الاكتفاء الذاتي، من صناعة السلاح، بما يخدم أغراضنا الدفاعية، ولكن أن نتحول إلى مصدر للسلاح، في الأسواق العالمية. أشار سموه أيضا، إلى السياحة، بما يستدعي إعادة نبث الآثار، في منطقة ثرية بتاريخها القديم، بحيث يمكن القول، إنه لا توجد صخرة، في هذه البلاد لا يوجد من تحتها أثر تاريخي عريق. إن استعادة حضور التاريخ، ليست عملية ترفيهية، أو اقتصادية، بل هي حضور للعناصر التي صنعت تاريخ هذه البلاد، منذ أقدم العصور. وتاريخيا تقاس الحضارات الإنسانية بعراقتها، وبحجم عطائها في مسيرة التاريخ الصاعدة. والأمم تستمد مقاوماتها وحضورها، بحسب نظرية التحدي للمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي من مورثاتها وتاريخها العريق. ذلك لا يعني أن الجانب الاقتصادي مغيب في استحضار التاريخ، ولكنها دعوة للتلازم والتوازن بين العمليتين. فالاقتصاد له علاقة مباشرة بالراهن، والتاريخ له علاقة بالروح وبالوجود، وبالثبات على منظومة المبادئ والقيم والرسالة التي صنعت تاريخ هذه الأمة. ولم تكن هذه الأفكار بعيدة عن عقل سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو يتحدث عن أهمية بناء متحف إسلامي، ينشأ في العاصمة الرياض، ويتيح لزوار المملكة وسياحها، على اختلاف جنسياتهم وأديانهم ومعتقداتهم. التعرف بشكل عياني، على تاريخ الإسلام، مهد البداية، وعنصر القوة والهداية في تاريخ هذه البلاد. لقد طرقت البلاد مرحلة جديدة، مغايرة بكل عناوينها، للمرحلة السابقة، رغم كونها استمرارية لما تأسس وبناء عليه. وقد طرقت بلدان كثيرة، من ضمنها بلدان عربية شقيقة سبيلنا الجديد. نجحت تجارب وفشلت أخرى. من قرأ قراءة صحيحة، وتنبأ بالمصاعب والمخاطر، تمكن في وقت مبكر، من إيجاد حلول ناجعة، وبات في عداد الدول التي يحسب حسابها الآن، ومن لم يقرأ بدقة، ويتهيأ للمخاطر ويحسب حسابها، انتهى به الأمر إلى المديونية والفشل، وتراجع قوته الاقتصادية. ومن حسن طالعنا أن لدينا قيادات شابة، مصممة على التماهي مع روح العصر، وأن لدينا رصيدا هائلا من التجارب الاقتصادية العالمية، التي ينبغي دراستها وتمحيصها، واختيار الأصوب من بينها، لكن نجعل من انطلاقتنا الواعدة، انطلاقة حقيقية بكل المقاييس، ولكي نأمل على مستقبل هذا الجيل والأجيال القادمة. تنويع مصادر الدخل أهم مرتكزات الرؤية السعودية