إن من أكبر القضايا التي تهدد سلامة الناس وتنهش في اقتصاد البلد هي قضية الحوادث المرورية، التي يذهب ضحيتها الآلاف من ابناء وبنات الوطن، وتكلف اقتصاده عشرات المليارات كل سنة، ولكننا الآن نمر بمرحلة تاريخية تقود فيها الدولة دفة التغيير، فلم تعد الدولة تقبل بالوضع الراهن، بل تطمح أن ترتقي بالبلد إلى مصاف الدول المتقدمة وتحافظ على مكتسبات البلد وتعمل على تنميته. من يتابع التقارير والدراسات التي تصدر بهذا الخصوص سوف يقف مذهولا أمام ما تعكسه من خسائر بشرية واقتصادية واجتماعية، ففي تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2013 ما يشير إلى أن المملكة هي الدولة الوحيدة بالعالم التي تشكل حوادث السيارات فيها السبب الرئيس للوفيات. كما تشير التقديرات إلى أننا فقدنا ما يزيد على 70 ألف إنسان خلال السنوات العشر الماضية، ذهبوا ضحية الحوادث المرورية، وقرابة 400 ألف مصاب خلال نفس الفترة، معظمهم من الشباب دون سن الأربعين، ومن المتوقع أن تزداد هذه الأعداد المرعبة في السنين القادمة - لا سمح الله - إذا لم يتم تدارك الأمر، كما أن الخسائر المادية الناتجة عن هذه الحوادث أصبحت عبئا كبيرا على موارد الوطن، حيث تكلف ما يزيد على 20 مليار ريال سنويا، حسب أقل التقديرات. ولكن ما يثير القلق أكثر هو أن هذه الخسائر في تزايد مستمر، حيث تشير تقارير منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، إلى أن المملكة العربية السعودية قد ارتفع لديها نسبة الوفيات بالحوادث المرورية من 23 لكل 100 ألف نسمه عام 2007 إلى 27.4 عام 2015، وتحتل مراكز متدنية في إحصاءات السلامة المرورية، بينما قامت دول كثيرة بخفض هذه النسب لديها بشكل كبير من خلال العديد من البرامج والأنظمة. إن المحاولات التي تقوم بها أجهزة الدولة على كافة المستويات لم تنجح في كبح جماح هذه الآفة والتخفيض من أعداد القتلى والمصابين، على الرغم مما تبذله الدولة من آلاف المليارات على إنشاء الطرق والمستشفيات، وما يبذله رجال الأمن والمرور من جهود في ملاحقة المخالفين لنظام المرور. قبل أكثر من 23 عاما تم تشكيل اللجنة الوطنية لسلامة المرور في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، قامت بالعديد من الدراسات والأبحاث، وعقدت الكثير من الاجتماعات، اتضح بعدها أنه لايوجد إستراتيجية وطنية لسلامة المرور، وأن ضعف التنسيق بين الجهات ذات العلاقة هو سبب رئيس لاستمرار تفاقم المشكلة، فاقترحت اللجنة إيجاد «الخطة الوطنية الإستراتيجية لسلامة المرور»، تضمنت الكثير من الأهداف والمشاريع التي رأتها ضرورية لمعالجة المشكلة، وقد توجت هذه الخطة بموافقة مجلس الوزراء الموقر قبل أكثر من 3 سنوات، ولكن هذه الخطة بقيت حبيسة الأدراج لعدم وجود جهاز حكومي يملك صلاحية متابعة تنفيذها. إن السؤال الهام الآن هو: ماذا بعد صدور هذه الخطة؟ وماذا يجب عمله لمواجهة هذه المعضلة الكبيرة؟ إن تعدد الجهات ذات العلاقة بالسلامة المرورية من وزارة نقل ووزارة بلديات ووزارة صحة ووزارة تعليم وإدارة مرور وقطاع خاص وغيرها، يجعل من إيجاد جهاز واحد يعنى بالسلامة المرورية أمرا في غاية الأهمية، بحيث يكون جهازا تشريعيا ورقابيا، يعمل على متابعة ما تم إقراره من مشاريع واقتراحات في الخطة الوطنية مع مختلف الجهات، ويكون مسؤولا عن تنظيم ومراقبة الشركات التي تعمل في مجال سلامة المرور (ساهر، مدارس القيادة، الفحص الدوري...الخ)، كما يكون من مسؤوليته الوقوف على حوادث النقل الكبيرة بمختلف أنواعها والتحقيق فيها (سيارات، قطارات، طائرات...) لمعرفة أسبابها وجمع المعلومات عنها، إضافة إلى جمع ونشر الإحصاءات والمعلومات عن حوادث النقل. هذا الجهاز الهام هو ما نحتاجه الآن لمواجهة مشكلة وطنية كبيرة تهدر أرواحا غالية، وتكلف أعباء مالية كبيرة نحتاجها لدفع عجله النمو والتطور، وقد سبقنا في تأسيسه الدول المتقدمة، فما أقترحه الآن يوجد ما يماثله في الولاياتالمتحدة تحت اسم «المجلس الوطني لسلامة المرور NTSB»، كما أن التقارير الدولية تشير إلى أن الكثير من البلدان نجحت في تخفيض أعداد ضحايا الحوادث المرورية. وحيث إن هذا الجهاز سوف يكون معنيا إن شاءالله بتوفير الآلاف من الأرواح وعشرات المليارات من أموال الدولة والمحافظة على مواردها البشرية والاقتصادية، من خلال وضع معايير السلامة على الطرق ووسائل النقل الاخرى ووضع السياسات والخطط والبرامج التي تؤدي إلى تخفيض أعداد الوفيات وتخفيف آثارها السلبية على تنمية الوطن واقتصاده، فإنه لابد أن يكون مستقلا عن أي جهة حكومية أخرى، وأرى أن يكون مرتبطا برئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، فهو من ينظر إلى المستقبل ويهتم بالحاضر ولن يقبل للمملكة إلا أن تسير في مقدمة القافلة. إن طموحات سمو الأمير محمد لن تدعه يقبل باستمرار هذا النزيف للأرواح والموارد، وأن تبقى الحوادث المرورية حجر عثرة أمام تنمية هذا الوطن الغالي. آمل أن يشمل التحول الوطني الذي يقوده سموه هذا الموضوع الهام الذي يمس شباب البلد واقتصاده ومستقبله.