يقف بين «عُقدة» و«عقيدة»، شكلتا حدّي مسيرة سياسية باتت عند حواف نهايتها، مُتمهلاً «حصاداً وفيراً»، يُتوّجه علامة فارقة في تاريخ «الأمل» الأمريكي، الذي بدأه – شأنه شأن كل أبناء جلدته – ب «حلم أبيه»، فكان الحُلم رئيساً بشّر ب «غد» فيه «أمل». بحث «أناه» مبكراً، مُستطلعاً ومُستفهماً عن تلك ال «نحن»، بشقّيها «العائلي الخاص» و«الوطني الأمريكي»، اللذين يشتركان في «شتات» تتوزعه قارات الأرض، بوطنياتها وقومياتها وأديانها، مختطاً من كل هذا سيرة الرئيس. باراك حسين أوباما، الرئيس ال 44 للولايات المتحدةالأمريكية، المولود (في 4 أغسطس 1961) لعائلة مختلطة عرقياً ودينياً، فوالده أفريقي كيني ينتسب إلى «قبيلة اللوو»، التي تقطن «محافظة نيانزا»، وأمه أمريكية من أصل إنجليزي، ولدت في ولاية كنساس، وتدعى ستانلي آن دونهام. والدا باراك من بيئتين مختلفتين تماماً، فجذور الأب أفريقية مسلمة، فيما الأم أوروبية مسيحية، إلا أن لقاءهما، خلال دراسة اللغة الروسية عام 1960 في جامعة هاواي، أسفر عن زواج لم يكن مألوفاً آنذاك، ف «الزيجات المختلطة» عرقياً واحدة من المحظورات الاجتماعية في تلك العقود، ما شكّل عبئاً انتهى بالطلاق بعد عامين. والدة باراك، بعد طلاقها، تزوجت من أندونيسي، ولكن تقلبات السياسة في اندونيسيا لم تكتب لهما الاستمرار في أمريكا، فالرئيس سوهارتو، الذي تسلم الحكم عام 1967، استدعى طلبة بلاده المبتعثين، لتنتقل أسرة باراك الجديدة إلى أندونيسيا. لم يلبث باراك طويلاً، إذ أعادته أمه عام 1971 إلى هونولولو بهاواي للعيش في كنف أبويها (جديّه)، ولينشأ الفتى ذو الملامح الأفريقية في أسرة جديدة بملامح أوروبية، بعد أن عاد والده إلى موطنه كينيا. مسقط رأس باراك أوباما يحمل سيرة مختلفة عن باقي الولايات الأمريكية، فقد خضعت هاواي، التي تتكوّن من 19 جزيرة متقاربة في المحيط الهادي، ل «التاج البريطاني» منذ اكتشافها عام 1778، ونشأت فيها 4 ممالك، حتى استطاعت الملكة ليليوكالاتي توحيدها، وعملت جاهدة على ضمها إلى الاتحاد الأمريكي، وهو ما أخفقت فيه مراراً، ليعلن الأمريكيون المقيمون فيها جمهورية مستقلة عام 1884. استمر رفض الكونجرس الأمريكي ضمّ هاواي حتى قَبِل بها عام 1898، ومنحها وصف «ولاية» عام 1900، لتكون واحدة من ولايتين تقعان خارج نطاق التواصل الجغرافي للولايات المتحدة (الولاية الأخرى هي ألاسكا)، ولتكون هاواي الولاية الوحيدة التي تقع بالكامل في المناطق الإستوائية، وأراضيها ليست تابعة لأي قارة، ومساحتها تزداد باستمرار نتيجة النشاط البركاني وتدفق الحمم البركانية، ولا يوجد فيها أغلبية من البيض، وسكانها خليط غني من العرقيات والأجناس. استهل الفتى أوباما بداياته في هاواي، التي احتضنت طفولته ومراهقته وتلقى دروسه الصفية فيها، باستثناء سنوات خمس قضاها برفقة أمه في أندونيسيا، ليغادرها عام 1979 إلى لوس أنجلوس ويلتحق بكلية اوكسيدنتال، ومن ثم نيويورك عام 1981 لإكمال دراسته في جامعة كولومبيا، التي تحصّل منها عام 1983 على الدرجة الجامعية الأولى في العلاقات الدولية، وفي عام 1988 التحق بجامعة هارفارد، ليتحصل منها على إجازة الحقوق عام 1991. دراسة الحقوق كانت مقدمة لزواجه، فقد التقى أوباما بزوجته ميشيل روبنسون في يونيو 1989، التي تولت مهمة إرشاده المهني، إذ كان لا يزال متدرباً صيفياً في شركة سيدلي أوستين للمحاماة بشيكاغو، ورغم رفضها المتكرر له إلا أنهما توافقا على الخطبه وتزوجا في أكتوبر 1992، وأنجبا ابنتيهما ماليا آن (يوليو 1998) وناتاشا الملقبة بساشا (يونيو 2001). الظهور الأول، وربما الأهم، لباراك أوباما جاء بوصفه ذلك الطالب «إفريقي العرق» الذي تسلم رئاسة تحرير «مجلة القانون»، التي تصدرها جامعة هارفارد العريقة، وهو لا يزال في سنته الدراسية الأولى، الأمر الذي تناولته الصحافة الأمريكية بشكل موسع، وأتاح ذلك للشاب الثلاثيني فرصة نادرة لتقديمه إلى الرأي العام، وثم اختيار الجامعة له بعقد مُقَدَم لكتابة مؤلف عن «العلاقات العرقية». «العِرق» و«اللون» شكّلا لدى أوباما - في بدايات حياته – «عُقدة أساسية»، سعى إلى تفكيكها وفهم مضمونها على مدى سنوات، وهو ما يؤكده في كتابه الأول «أحلام من أبي - قصة عرق وإرث» (نشر عام 1995)، الذي يصف فيه (عبر 19 فصلاً موزعة على ثلاثة أبواب رئيسة حملت عناوين: الجذور وشيكاجووكينيا) رحلته الإنسانية، حيث الطفل الباحث عن أبيه في هاواى وكينيا، ومن ثم المغامر الشقيّ فى أندونيسيا، وتالياً الشاب الأسود القاطن في بيت للبيض، وأخيراً المحامي العاشق لأمريكا والباحث فيها عن «عدالة»، قِوامها المساواة دون جراحات العنصرية والعبودية. في كتابه قدّم أوباما تأملاته عن أحوال السود فى أمريكا، وحاول عرض البنية الوجدانية لأبناء جلدته عبر استعراضه للقصة الذاتية، التي استدعت انتقاله عام 1988 إلى موطن والده (كينيا) ليتعرف إلى ذاته، فيكتشف (خلال رحلة استمرت 5 أسابيع) أن لديه أسرة كبيرة، تشبه إلى حد ما «الأممالمتحدة المصغرة»، فأعضاؤها يتوزعون بين الملامح الإنجليزية والإفريقية والآسيوية، وأن لديه إخوة غير أشقاء (سبعة ذكور وبنتان). «والدي لم يبد أبداً مثل الناس من حولي، حيث كان شديد السواد، ووالدتي بيضاء كالحليب»، يقول أوباما في كتابه، ويضيف «لقد سنحت لي فرصة نادرة للتعايش مع مجموعة متنوعة من الثقافات، في جو من الاحترام المتبادل، وهذا أصبح جزءاً لا يتجزأ من نظرتي للعالم، وأساساً للقيم التي أعتز بها». لكن، هذا الفهم العرقي لم يستقر لدى أوباما بسهولة، وهو ما يعترف به بحديثه عن إدمان الكحول والمخدرات (الماريجوانا والكوكايين) في سنوات المراهقة، ويرى أن إدمانها جاء ك «محاولة لنسيان أسئلة الهوية» التي تجول بخاطره، دون أن ينكر أنها كانت «أكبر فشل أخلاقي» مُني به. آنذاك لم يدرك أوباما أن «المشكلة الهوياتية» ستكون ذات يوم رافعة لتقلّده أرفع المناصب السياسية، فهو لم يكن بعد قد خطا أول عتبات السياسة، إذ درج للتو في حياة عملية ظلت غير مستقرة حتى استدل على العمل الاجتماعي، حيث عيّن عام 1985 كمنظم اجتماعي في مشروع للمجتمعات النامية بشيكاجو، ويبدأ صعوده المهني في أكتوبر 1992، حين تولى إدارة مشروع التصويت بولاية إلينوي، وهي حملة لتسجيل الناخبين استطاع خلالها تسجيل 150 ألف ناخب أمريكي من أصل إفريقي من إجمالي 400 ألف غير مسجلين، وهو إنجاز دفع «شركة كرين» إلى إدراج اسمه في قائمة توقعات من هم «أقل من أربعين عاماً وقد يحتلون مناصب قيادية». ترافق صعود أوباما العملي مع التحاقه بجامعة شيكاجو كمحاضر للقانون الدستوري عام 1992، ومن ثم أحد كبار المحاضرين حتى عام 2004، إضافة إلى التحاقه بشركة ديفيس مينر جالند وبارنهيل للمحاماة، المتخصصة في الحقوق المدنية وتطوير الأحياء اقتصادياً. سياسياً، نشط باراك أوباما في الحزب الديمقراطي، وشكّلت جهوده في تسجيل الأمريكيين الأفارقة للانتخابات رافعة انتخابية مهمة، لينتخب عام 1996 عضواً بمجلس شيوخ ولاية إلينوي، ويواصل الترشح والفوز بها على مدى 4 دورات انتخابية، مستنداً إلى مجموعة من المواقف والآراء اليسارية المنحازة لصالح الطبقات الفقيرة، وصولاً إلى نوفمبر 2004، حيث فاز في انتخابات الكونغرس الأمريكي عن نفس الولاية، ليكون أول أمريكي من أصول أفريقية يدخل الكونغرس بوصفه عضواً مُنتَخباً، ليشغل مهام متعددة في لجان «العلاقات الخارجية» و«البيئة» و«الأشغال العامة» و«شؤون المحاربين القدماء» و«الصحة» و«التعليم» و«العمل» و«المعاشات» و«الأمن الداخلي»، وهي لجان كرسته كمدافع عن حقوق الأمريكيين ومطالب بحياة أفضل لهم، فضلاً عن مواقف متصلة بالسياسة الخارجية. استثمر السناتور أوباما صعوده الصاروخي، إذ أصبح نجماً ساطعاً بين الديموقراطيين، الذين بدأوا يستشعرون أن الرجل «مشروع رئيس»، فيلتقط المزاج العام ويُعلِن عن ترشّحه لرئاسة البلاد من أمام مبنى ولاية إلينوي التاريخي، الذي تحتفظ ذاكرة الأمريكيين الجمعية بدلالة رمزية له، حيث ألقى فيه الرئيس الأمريكي أبراهام لينكون خطابه الشهير «البيت المنقسم» عام 1858. رفع مرشح الرئاسة شعار «جرأة الحلم»، وخاض معركة انتخابية فريدة من نوعها، تبنى فيها خطاباً يعزز الطبقات الفقيرة ويمكّنها من العيش والرعاية والتعليم، وقدم خلالها نفسه كنموذج للأمريكي الأسود، وترافق ذلك مع أزمة اقتصادية عالمية بدأت علاماتها بالظهور مع ضيق من سنوات الرئيس جورج بوش الابن العِجاف، مستقطباً طيفاً واسعاً من الأمريكيين الشباب، الذين شكلوا الدعامة الرئيسة لحملته الدعائية، وحملوه إلى البيت الأبيض في فوز ساحق، على منافسيه الديمقراطيين أولاً والجمهوريين تالياً، أُعلنت نتائجه في نوفمبر 2008، ليكون الأمريكي الأفريقي في قلب البيت الأبيض لدورتين رئاسيتين تنتهيان بحلول نهاية العام الحالي 2016. في تحضيراته للدورة الثانية من ترشحه للرئاسة عام 2012، ورغم أن آمال ناخبيه لم تكن بذات حماستهم في 2008، إلا أن استطلاعاً ميدانياً لمواقفهم (أجراه كاتب هذه السطور في واشنطن العاصمة) كان يكشف حجم الأمل المعلّق على الرئيس، وهو على ما يبدو أمل ارتهن بقدرات أوباما الخطابية، التي ألهمت وألهبت مشاعر الناخب، واستطاعت الاستدلال على كلمة السر، ليختصر أغلبهم موقفه بعبارة «إنه وقت أوباما»، لكن هذا الرصيد الشعبي آخذ في التراجع. خلال سنوات رئاسته، تبنى أوباما سياسات منسجمة إلى حد بعيد مع الشعارات التي أطلقها في حملتيه الانتخابيتين، سواء على صعيد الملف الداخلي، إذ أسهمت سلسلة من القرارات في توفير أريحيات معيشية للأمريكيين، وتوفير فرص عمل، وتقديم نموذج جديد للرعاية الصحية (برنامج أوباما كير)، وغيرها من الملفات كإصدار قانون لإنعاش الاقتصاد وإعادة الاستثمار بهدف تحفيز الاقتصاد ومساعدته على التعافي من تفاقم الكساد العالمي، لكنها لم تبلغ حدود الأمل التي أحياها في أوساط الأمريكيين. وعلى صعيد السياسة الخارجية، انسجم أوباما إلى حد بعيد مع خطابه الداعي إلى تحسين صورة أمريكا في الخارج، وتحديداً في العالمين العربي والإسلامي، خاصة لجهة الانسحاب من العراق، والسعي إلى إيجاد تسوية في أفغانستان، وتسوية الملف النووي الإيراني، والاهتمام بقضايا المناخ والانبعاثات، والتقريب بين أتباع الديانات، إضافة إلى كلماته التوفيقية مع العالم الإسلامي التي ألقاها في جامعة القاهرة، والسعي المنحاز لصالح إسرائيل في عملية السلام مع الفلسطينيين. لكن، تمسك أوباما بشعاراته الانتخابية، خلال توليه السلطة، حجب عن الرجل القدرة على التعامل مع الملفات الطارئة بشكل فعّال، ولعل الاختبارات العملية لإدارته برزت عبر عدة أحداث كبرى، كاندلاع موجات الربيع العربي والعجز عن استيعاب المتغيرات والاكتفاء بالنظر إليها على أنها موجة جديدة من الديمقراطية تضرب الأنظمة السياسية الراكدة في العالم العربي، وهي الرؤية التي ظلت قاصرة عن إدراك عمق الحدث واستراتيجيته، خاصة مع الانهيار الكلي لركائز في النظام الإقليمي. وفي الملف السوري، بدا أوباما مسكوناً بالخوف من التجربة العراقية، التي أخفقت بلاده فيها بإحداث التغيير رغم كل الجهد الذي بذلته، ما دفعه إلى التردد، وفي أحيان كثيرة الارتجاف من أي تدخل في سوريا قد يفضي إلى فوضى تحاكي النموذج العراقي، فضلاً عما شكّله هذا من وصمة لخطاب حقوق الإنسان الذي تبناه، خاصة أن نظام بشار الأسد قتل ما يزيد عن 400 ألف مواطن سوري، وهي الجريمة التي يشكل الصمت عنها جريمة أكبر، فالصمت هنا يكافئ الطاغية على طغيانه. وتجاهل أوباما تماماً تهديد إيران للسلم الإقليمي والدولي، إذ واصلت إثارة الفتن ابتداء من العراق ومروراً بسورية ولبنان، ووصولاً إلى اليمن، سواء عبر تدخلها مباشرة أو عبر ميليشياتها في الدول العربية، فضلاً عن مساهمتها في تغذية الإرهاب وتنظيماته، وتحديداً «تنظيم داعش»، الذي يُشكل الدعم الإيراني له أهم أسباب الموجة الجديدة للإرهاب الدولي، وبدلاً من كسر شوكة إيران أو المساهمة في كسرها، راحت إدارة أوباما إلى توقيع الاتفاق النووي، الذي لا شك أنه يقيد طموحات طهران النووية، عبر آليات المراقبة، لكنه يقدم حوافز اقتصادية ستسمح لها بمواصلة دورها التدميري في المنطقة والعالم. ثمة ضبابية رافقت نهج أوباما في السياسة الخارجية، تضمنت مراراً خطاباً مزدوجاً ومتناقضاً، يكتفي بالنظر عبر زوايا ضيقة، لا تشكل بالضرورة إسهاماً في تحقيق السلم الإقليمي والعالمي، وهي ما أسميت في مقابلة مجلة «أتلانتيك» الأمريكية ب «عقيدة أوباما»، التي تتضمن نهجاً انعزالياً أكثر منها رؤية للسياسة الخارجية. عقيدة أوباما، التي ظنها ستقدم له حصاداً وفيراً يخلّده، لم تتجاوز حدود كونها رؤية تقبل الصواب والخطأ وستسقط مباشرة بعد مغادرته للبيت الأبيض، وهو ما يبدو أنه أدركه خلال زيارته للمملكة، ولقائه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، والاجتماع مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض. يدرك أوباما في هذه الأثناء أن النظام الإقليمي الخليجي، بقيادة المملكة العربية السعودية، هو الضامن الوحيد المتبقي في المنطقة العربية، التي تشهد على امتدادها فوضى معقدة، وأن الحزم السعودي والخليجي مُدرك لواجبه الإنساني، وعارف بأصل الشرور وموطنه، وعازم على اجتثاثه. الرئيس الأمريكي ال 44 جاء ب «فقه التغيير»، لكنه فقه استند إلى التفاصيل الجزئية، دون رؤية ل «المشهد الكلي»، الأمر الذي لا شك أنه أدركه في حضرة الملك، وربما يكون بذلك قد أدرك «الحصاد» الذي سعى إليه.