يحتدم صراع، ذو أبعاد دينية، بين الأردن وإسرائيل في المسجد الأقصى المبارك، يعكس عمق الخلاف الذي يضرب العلاقات الثنائية، التي تنظمها معاهدة سلام وقّعها الجانبين قبل ما يربو على عقدين. الصراع الأردني - الإسرائيلي في المسجد الأقصى، الخاضع للاحتلال منذ عام 1967، بات علامة فارقة في الآونة الأخيرة، وتحديداً في أعقاب اندلاع "انتفاضة السكاكين"، التي رافقت جموداً في العلاقات بين الجانبين بدأ مع وصول اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى سدة الحكم، وما رافقه من تآكل شعبية ونفوذ القوى اليسارية، التي توصف (لدى العديدين) ب"المعتدلة". التطور الأخير للعلاقات بين الجانبين جاء باعتقال سلطات الاحتلال الإسرائيلي لخطيب المسجد الاقصى المبارك الشيخ محمد سليم، عقب خروجه من الحرم القدسي بعد خطبة الجمعة الفائتة، وهو ما اعتبرته السلطات الأردنية تحدياً صارخاً لولايتها الدينية على الأماكن المقدسة في مدينة القدس. سلطات الاحتلال الإسرائيلي أفرجت عن خطيب الأقصى في وقت لاحق، إلا أن "دلالة الحادثة أردنياً أعمق من اعتقال دام ساعات"، كما يقول وزير الأوقاف الأردني د. هايل داود. ويشير الوزير داود، في بيان صحفي تسلمت "اليوم" نسخة منه، الى أن "اعتقال سلطات الاحتلال الإسرائيلي رجل دين يمارس عبادته يحمل دلالات مرفوضة ومستنكرة". ويؤكد داود أن "اعتقال الاحتلال للشيخ محمد سليم، عقب إلقائه خطبة الجمعة، هو تدخل في شؤون المسجد الأقصى، وتجاوز على مكانة دور العبادة، ويعكس تجاوز إسرائيل لواجباتها والتزاماتها كسلطة محتلة، فضلاً عما يشكله من مخالفة للقوانين الدولية". تصريحات الوزير الداود جاءت في سياق أردني غاضب على الإجراءات الإسرائيلية في الحرم القدسي، إذ استدعت قبله بأيام وزارة الخارجية الأردنية السفير الإسرائيلي في العاصمة عمان وسلّمته مذكرة احتجاج على الاقتحامات الإسرائيلية المتكررة للحرم القدسي. مذكرة الاحتجاج الأردنية، التي كشف النقاب عنها وزير الإعلام د. محمد المومني، تضمنت لوماً شديدة اللهجة لتل أبيب، وتهديداً ب"إجراءات أردنية رادعة". وعلّق الوزير المومني على المذكرة بالقول إن "الأردن أبلغ السفير الإسرائيلي بأنه سيواصل كل الجهود الدبلوماسية والقانونية لوقف هذه الانتهاكات وردعها، والتصدي لمختلف الأعمال الإسرائيلية ووقفها". وتضمنت المذكرة الأردنية احتجاجاً على "الاقتحامات المتكررة للمتطرف يهودا غليك للحرم القدسي الشريف"، وتحميلاً لسلطات الاحتلال "مسؤولية سلامة المسجد الأقصى المبارك"، وذلك في أعقاب تقارير أشارت إلى "استخدام الاحتلال لمواد حمضية في عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى". وتزامن مع المذكرة جدل واسع أثاره إعلان عمّان البدء بتركيب كاميرات مراقبة داخل الحرم القدسي، وهي التسوية التي اقترحها الأردن رداً على مطالبة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، في أكتوبر الماضي، ب "معايير واضحة بشأن الوصول إلى الأماكن المقدسة"، وذلك لتهدئة التوتر والحد من المواجهات التي شهدتها مدينة القدسالمحتلة. "كاميرات مراقبة الأقصى" أثارت مواقف متباينة أردنياً وإسرائيلياً وفلسطينياً، تراوحت بين أهمية "توثيق الانتهاكات الإسرائيلية للحرم القدسي، عبر البث على مدار الساعة لما يجري"، وفق رواية السلطات الأردنية التي تقبل بها السلطة الفلسطينية، وهو ما ترفضه قوى فلسطينية وأردنية عديدة، اعتبرت أنها "ستقدم أدلة مصورة للاحتلال على المرابطين في الأقصى اللذين يقاومون الاقتحامات اليهودية". الموقف الإسرائيلي أيضاً شهد تبايناً حيال الكاميرات الأردنية، ففي الوقت الذي اعتبرتها تل أبيب "مصلحة إسرائيلية"، لأنها "ستوثق الإخلال بالأمن، الذي يقوم به الجانب الفلسطيني"، تصدى اليمين الإسرائيلي لها باعتبارها "تدخلاً وانتقاصاً من السيادة الإسرائيلية، السياسية والدينية، على مدينة القدس". ويعتبر الأردن صاحب "الولاية الدينية" على مدينة القدسالمحتلة، التي خضعت للحكم الأردني حتى احتلتها إسرائيل عام 1967، وهي ولاية ممتدة منذ قرابة قرن من الزمان، فيما جرى تجديدها ب "اتفاقية الوصاية"، التي وقعها الرئيس الفلسطيني محمود عباس والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في مارس 2013. وتعهدت إسرائيل في المادة 9 من معاهدة السلام مع الأردن، الموقعة عام 1994، ب "احترام الدور الأردني الخاص في الأماكن المقدسة في القدس"، مع ضمان كل طرف للطرف الآخر "حرية الدخول إلى الأماكن ذات الأهمية الدينية والتاريخية". ويرى عضو لجنة فلسطين في مجلس النواب الأردني النائب خليل عطية، في حديث ل "اليوم"، أن "الولاية الدينية الأردنية ثابتة، فبالإضافة إلى ما تضمنته اتفاقية الوصاية فإن القانون الدولي يحظر على القوة المحتلة المساس بحرية العبادة وقدسية الأماكن الدينية والتاريخية". ويعتبر عطية أن "تل أبيب تسعى بمختلف الوسائل إلى محاربة الدور الأردني، لما يشكله من عقبة أمام مشاريعها في مدينة القدس، التي تستهدف تغيير الطابع الديني والسياسي والديموغرافي للمدينة، وهو ما لن تسمح به عمّان أبداً". واستشهد النائب عطية على الجهد الأردني ب "إفشال مخطط الكنيست الإسرائيلي التصويت على نزع الولاية الأردنية عن مدينة القدس عبر حملة دبلوماسية كبيرة، إضافة إلى تهديد مجلس النواب الأردني بإلغاء معاهدة السلام حال واصلت تل أبيب مسعاها". وسعى الكنيست الإسرائيلي إلى مناقشة مقترح النائب الليكودي موشيه فيغلين ب "نزع السيادة الأردنية عن مدينة القدس"، وهو ما أحبط بعد حملة دولية أردنية – فلسطينية دفعت أطرافاً دولية إلى الضغط لوقف المناقشة. ويتولى موظفون تابعون لوزارة الأوقاف الأردنية إدارة شؤون المسجد الأقصى، إلا أنهم مجردون من أية سلطة في مواجهة آلة الاحتلال الإسرائيلي، فيما شكّل اعتقال خطيب الأقصى رسالة بأن هؤلاء ليسوا بمنأى عن الاعتقال حال تصديهم للمشروع الإسرائيلي، الأمر الذي يعني مساساً بمكانة الأردن وهيبتها، الأمر الذي قد يزيد من حده الخلافات بين الجانبين.