سأبدأ بحكاية بقالة الحي القريبة من منزلي. لها يافطة كبيرة باسم صاحبها وهو سعودي قح، لم أره قط في تلك البقالة. أما البقالة فدائماً فاتحة لاستقبال الزبائن، ودائماً تتحسن خدماتها. وفي العام الماضي أُلحق بها محل لبيع الفواكه والخضار، مرتب ونظيف ويعج بالأصناف كلها رغم محدودية مساحته. وكما هو معتاد، فكل من يعمل في بقالة الحي تلك وافد ومن جنسية واحدة، يعملون كفريق متجانس ومتعاون. تعاملهم راق مع الزبائن، كأن يوصلوا أغراضك إلى السيارة، أو يسرع ليجلب لك غرضا تذكرت وأنت عند المحاسب (الكاشير) أن تضمه لمشترياتك. كأحد سكان الحي، هل أرى أن وجود البقالة مفيد؟ نعم. أقول هذا على الرغم من أن عدداً من محلات السوبر ماركت الكبيرة والهايبر على بعد "حذفة حصاة". أصدقكم، بعض الأصناف لا نشتريها من تلك البقالة لاعتبارات السعر أو لعدم توفر الاسم التجاري (الماركة) التي نريد. وكذلك أصدقكم، أني لم أر سعودياً يعمل في تلك البقالة قط. كمواطن، هل أرى وجاهة إغلاق بقالات الأحياء؟ نظرياً، يجب ألا يكون لها مكان وسكن المنازل، ولكن عملياً نحن أمام ظاهرة متفشية على الأرض. وعملياً كذلك، علينا معرفة الأسباب الموجبة أولاً، وبعد ذلك معرفة خطة التطبيق السلس. وريثما نسمع إجابات عن تلك الأسئلة، مهم القول إنه ليس ملائماً أن تُتخذ قرارات ثم لا تجد طريقاً للتنفيذ بسبب عدم واقعيتها، أو بسبب أن هناك من يعيق تطبيقها. سأعطي أمثلة، وأبدأ بأننا في العام 2000، أي قبل 16 عاماً، اتخذنا قراراً بإغلاق بقالات الأحياء التي تقل مساحتها عن 400م2 إن لم توظف سعوديين، وحتى يومنا هذا لم نجد أثراً لتطبيق القرار! وقبله كانت قرارات عن سعودة الليموزين ومحلات الذهب والسياحة والخضار. مهمٌ أن نعرف لماذا اتخذت تلك القرارات ثم لم تنفذ، لعل ثمة أسبابا وموانع جوهرية، أو لعلها اتخذت تحت تأثير ظرف معين، أو لم تنفذ نتيجة إخفاقات إدارية. لكن لا بد أن نتعلم من تجاربنا السابقة لنحسن أداءنا مستقبلاً. ومهما يكن من سبب، فضروري عدم حل القضايا المتصلة بسوق العمل أو أنشطة البيع والشراء إلا من خلال قرارات اقتصادية وليس تشديدات إدارية وإجرائية، فمشاكل الاقتصاد تُحلّ باستحداث أو تعديل سياسات اقتصادية متوازنة. وهكذا، نعود للنقطة التي طرحت في البداية؛ علينا معرفة موجبات "إغلاق بقالات الأحياء"، هل هي اقتصادية أم غير اقتصادية، أمنية مثلاً. اقتصادياً، إغلاق محال البقالة سيُحكم قبضة محلات السوبرماركت الكبيرة على السوق، وهي أعلى سعراً. قبل أشهر افتتحت احدى شركات السوبرماركت الكبيرة بقالةً صغيرةً بالقرب من بقالة الحي الذي أسكن، تبعد عنها حوالي 200م، سمتها شيئا قريبا من "بقالتي". لم أفكر أن أذهب لها، ولم أجدها مزدحمة قط. بالنسبة لنا ليست خياراً، فخدمتها وأسعارها لا تمثل منافساً لبقالة الحي التي يديرها وربما يملكها وافدون!. ما الأنسب: قفل محلات البقالة في الأحياء، أم تسليمها لمواطنين، أم تسليمها لشركات السوبرماركت الكبيرة؟ لكن ما الأنسب لمن؟ إن كان الهدف هو إتاحة مزيد من الفرص للمواطنين، فهل نريد للمواطن فرصةً ليملك البقالة أم ليعمل فيها موظفاً؟ هناك فرق كبير؛ فالوضع الحالي أن من يملك البقالة "صورياً" مواطن ويعمل بها وافدون هم - في الحقيقة - الملاك. إجمالاً، من يَعمل حالياً في البقالات ملاكُها الحقيقيون وهم وافدون! لكن المعضلة أنهم لا يدفعون ضريبة الدخل الواجب أن يدفعها كل مستثمر أجنبي، ولا يوظفون سعوديين، ويحققون كل ذلك مقابل دفع "إتاوة" شهرية للمالك "الصوري" المتلاعب على القانون!. إذاً، ومن باب الدخول اقتصادياً على الأمر، فنحن أمام خيارين: أن نكشف التستر، ويصبح المالك "الصوري" والمالك "المشغل" شريكين؛ يدفع المواطن زكاة والوافد ضريبة دخل، ويعملان في البقالة، وذلك لإنهاء التلاعب والمخالفات بحق النظام، وبذلك نحفظ حق الجميع، ولهذا التوجه تفاصيل ليس هذا مجالها. والخيار الثاني، هو السعودة بالكامل، أي ألا يعمل بها إلا مواطن. السؤال: هل لدينا ما يكفي من مواطنين ممن لديهم الرغبة والقدرة للقيام بالعمل؟ الخوف أن نفتح باباً للسعودة الوهمية، ولصيغة تعزز التستر. أما الخيار الذي علينا أن نوفره، فهو اتاحة التمويل والمساندة للمواطن الذي يرغب في أن يَفتتح بقالة ليعمل بها، وكذلك لمن يريد أن يفتتح محلا لبيع الخضار ليعمل به، أو محلاً لبيع المكسرات، أو لتغليف الهدايا، أو بيع الورود، الخ. الشرط هو أن يعمل وأن يعرف أن له شريكا ممولا سيشرف عليه سيحصي عليه أنفاسه، وهو جهة حكومية. وبالتأكيد فالجهة الحكومية الطبيعية للقيام بهذا العمل (الشريك الحكومي) هي الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، والتي تملك ذراعاً تمويلياً كذلك، من خلال الدور الذي كان يمارسه البنك السعودي للتسليف والادخار. وبالتأكيد، خيارات وصيغ الشراكة والتمويل متعددة ليس هذا مجال شرحها. كما نلاحظ، فليس ثمة حل سحري لتراكمات الماضي، وليس منطقياً أن نترك عدد بقالات الأحياء يصل لعشرات الآلاف ثم لنقرر فجأة شطبها بجرة قلم. هذا لا يعني عدم السعي لتعديل الوضع، ولكن بما يَضمن تحقيق ملموس للصالح العام، أما أن نقلب الأوضاع رأساً على عقب وبنزق لأن أحدٌ "متضايق" من بقالات الأحياء، فهذا أمر صعب التحقق، إذ إن المعالجة يجب أن تكون وفق أسلوب يحول تلك البقالات من منشآت تأخذ من الاقتصاد إلى منشآت تضيف قيمة من حيث توليد الوظائف والاستثمار.