نقترب من فصل الجمال، فصل الربيع الذي يأتي أول يوم منه 21 مارس من كل سنة، فهذه أشجار تُتوج بالاخضرار بعد يبسها، وهذه زهور تتفتح بألوانها وعطرها، وهذه شمس تسطع بشعاعها ودفئها، فالأرض كلها تتجمل بإذن ربها.. وقد فطرنا ربنا على حب الجمال، وكيف لا، وهو -سبحانه- جميل يحب الجمال كما وصفه الرسول -صلى الله عليه وسلم-. وتأكد هذا المعنى في البيان النبوي في مناسبات عدة لتصحيح المفاهيم وضبط القيم، جاءه رجل، وَكَانَ جَمِيلا، فَقَالَ: حُبِّبَ إِلَيَّ الْجَمَالُ، وَأُعْطِيتُ مَا تَرَى، حَتَّى مَا أُحِبُّ أَنْ يَفُوقَنِي أَحَدٌ ولو بِشِرَاكِ نَعْلٍ، أفمن الكبر ذلك يا رسول الله؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطَرَ الْحَقَّ، وَغَمَطَ النَّاسَ" رواه أبو داود، وبطر الحق جحده، وغمط الناس احتقارهم. وأعتقد أننا نعاني أزمة في مفهوم الجمال، فهو ينحصر في أذهان كثير منا في غلاف الجسد وأناقة الثياب ورونق الأثاث، وهذا جمال ظاهري، يلهث وراءه كثيرون لكنه جمال موقوت له تاريخ صلاحية يزول بعده، أما الجمال الحقيقي فهو أعمق من هذه المظاهر الخارجية وأبقى. يقول الإمام ابن القيم في كتابه (روضة المحبين): اعلم أنّ الجمال ينقسم قسمين: ظاهر، وباطن، فالجمال الباطن: هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن هو محل نظر الله -تعالى- من عبده وموضع محبته، وهذا الجمال يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال.. والجمال الظاهر من نعم الله أيضا على عباده يوجب الشكر. وشكره التقوى والصيانة، فكلما شكر مولاه على ما أولاه زاده الله جمالا ومنحه كمالا. ولا يعني ذلك ازدراء الجمال الحسي لكني أنبه على خطورة الاكتفاء بغلافه الخارجي عن جوهره ومخبره، وأذكر أن طبيبا شابا جاء يستشيرني في مشكلة وقع فيها بسبب زواجه من فتاه بهره جمالها وتزوجها على عجل دون التأكد من أخلاقها وعفافها، وبعد الزواج شرعت تطوف به في الأسواق لمشترواتها الخاصة حتى أفلس واستدان، ولما رجاها أن تؤجل بعض طلباتها غضبت وقالت له دعني أذهب إلى السوق (للفرجة) ولكنها، تعرفت على شاب فاحش الثراء والأخلاق واستدرجها إلى بيته، وأغراها بما تحب من مال، وبدأ الطبيب يرتاب في خروجها وما تحمله من هدايا فتتبعها خفية؛ حتى تكشفت له خيانتها!. المشكلة ليس في جمال المرأة ولكن في افتقارها إلى جمال الدين والخلق.. فكيف تصلح مثل هذه المرأة لإعمار بيت وتربية أولاد إنها أشبه بمسكن جميل وساكنه قبيح دميم. وكم أعجبتني مقولة للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في معايير الاختيار لخطبة المرأة فقد قال: إذا خطب رجل امرأة سأل عن جمالها أولا، فإن حُمد سأل عن دينها، فإن حُمد تزوج، وإن لم يُحمد يكون ردها لأجل الدين، ولا يسأل أولا عن الدين، فإن حُمد سأل عن الجمال، فإن لم يحمد ردها فيكون رده للجمال لا للدين، وهذا يعني أن الدين -وهو جمال الروح- هو المعيار الحاسم في القبول والرد. والإسلام يحفل بالتشريعات الجمالية الظاهرة والباطنة، فقد دعا إلى المحافظة على نقاء الفطرة كما في الحديث: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط". وكذلك استحباب التزين والتطيب والغسل وغير ذلك. قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ} (32) سورة الأعراف لكن الجمال كما أسلفت ليس أمرا شكليا، وبعض الناس يدفع المبالغ الباهظة في عمليات التجميل ومستحضراته، دون أن يعير اهتماما بترقية جماله الداخلي في أخلاقه وحلاوة السجايا وطهارة الروح، وعفة النفس الفياضة بالرحمة والمودة . أنا أسمع عن عمليات لتجميل الأنف، وكم أود لو أن هناك عملية لتجميل اللسان، ليس باستئصال الطول الزائد منه، ولكن بتحسين منطقه وتلطيف عباراته. هناك أناس كثيرون يملكون جمالا أخاذا، ولكن ما أقبحهم حين يتحدثون، وما أشد سلاطة ألسنتهم حين يغضبون.. إنك تستطيع بابتسامة مشرقة أن ترسم جمالا متألقا على قسمات وجهك، وامسح العبوس عن وجهك وإلا بدا قبيحا مهما أوتيت من ملاحة وحسن. ومع تجمل أرضنا في ربيعها الطلق بُثّ الجمال في كل ما تؤديه، كلمة طيبة، عمل متقن، صبر جميل، صفح جميل، أو حتى هجر جميل لو اضطررت إليه وكن جميلاً تر الوجود جميلاً.