في البداية، اعتبرتُه مقطعا هزليا، ومع استرسال صاحبه بعرض الفكرة؛ أدركتُ أن الأمر حقيقي، وبدوري أعدتُ توجيه السؤال إلى نفسي: عرِّفي ببلدك بعيدا عن ارتباطه بالحرمين ومطاعمكم الشهيرة؟ وأضفتُ السؤال الضمني الذي لم يتم التفوُّه به: ما الذي يعنيني ببلدك؟ تلك الخواطر تفاعلتُ بها مع مبتعث يشتكي من نظرة الأساتذة الغربيين في المعاهد إلى الطالب/ ة السعودي، وبأنهم يتوسّلون الطلبة السعوديين بالحديث الجاد عن البلد بعيدا عن تديُّنهِ وقيادة المرأة والحنين إلى ذلك المطعم الشهير في المنطقة الغربية، ذلك الحديث الجاد الذي يود الغرب سماعه عن المخترعين والمكتشفين والمفكرين والفلاسفة. لكن النتيجة الدائمة تقول بأنه لم يتم تمثيل الوطن بشكل ثقافي؛ لأن الطالب مصاب بهشاشة ثقافية أثَّرتْ على طريقة مشيه؛ فلم يظهر بالشكل المطلوب لتمثيل مسيرة بلاده بشكل صحي لائق. إنها لمصيبة أن يتخرج الطالب من المرحلة الثانوية والجامعية ولا يعرف التحدث عن وطنه! لقد تضخَّمت مشاعر المعاناة هذه من الهشاشة، بشكل أدَّى لظهور حسابات تواصلية تدّعي الفتوحات العلمية لمبتعثينا وثبت مرارا كذبها.. ولو وُجِدت مادة دراسية "إثرائية" اسمها مثلا: "الإعلام" يدرس فيها الطالب رموزا متنوعة من بلده بعيدا عن السياسة لاقتدى واهتدى وعرف من أين جاء حقا.. فالمكان الذي جاء منه لم يتوقف ثقافيا على أربعة عشر قرنا مضت، بل هو معاصر أيضا وله إنجازاته، لكنها لم تدخل حقيبته المدرسية ولا هويته ولا أغانيه الوطنية التي تبتره تماما عن خلفيته الثقافية! فنحن قد جنَّدنا الشباب للسفر ووجهناهم لرحلات في الشرق والغرب؛ ليتعلموا من كل شيء وفي كل شيء، لكننا لم نعلِّم الواحد منهم: «من هو» وكيف ينطلق لاستعمال هذه الرحلة كغزو ثقافي للآخرين كما يحدث مع الأمم المتقدمة الواعية.. لقد كان باستطاعتنا غزو العالم ثقافيا عبر تجربة الابتعاث بمئات الآلاف الذين خرجوا للدراسة.. لكننا أرسلناهم ليسألوا الأسئلة الخاصة بالهويّة.. متأخرين في ذلك عن أي إنسان طبيعي حي بسنوات طويلة.. نحن بحاجة لمادة تعمِّق الشعور بالوطن والهوية، تكون مادة للحلم، يتعرف فيها أبناؤنا على مبدعيهم، ويكون من أهدافها مصافحة الحلم أيضا عبر الالتقاء برموزه الأحياء في كل مكان في هذا الوطن، في الشرق والغرب والشمال والجنوب والوسط، بدلا من ذكريات إثراء البطن، والعودة بالحنين إلى المطاعم في عز الغربة الثقافية!.