شارك الدكتور سعد البازعي في الدورة الأخيرة من معرض برلين الدولي للكتاب بورقة ضمن فعاليته، وقدمها باللغة الإنكليزية، ننشر هنا ترجمة لها إلى اللغة العربية قامت بها الأكاديمية والمترجمة مهرة العتيبي. في أوائل السبعينات عندما كنت طالباً أدرس اللغة الإنكليزية في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً)، طلب إلينا أستاذ بريطاني أن نكتب نصاً يعبر عن «انطباعنا» تجاه قصيدة للشاعر الإنكليزي جورج هيربرت من القرن ال17. كان عنوان القصيدة «الطوق»، وكان موضوعها يدور حول تجربة دينية مرّ بها الشاعر القسيس. عاد أستاذي المندهش في اليوم الثاني ليخبرني بأن تعبيري عن الانطباع لم يكن معبراً، فهو لم يجد قراءتي جيدة، ليس بسبب ما وجده من العيوب في الأسلوب والصياغة، وهي المصاعب المعتادة التي يقع فيها الطلبة العرب الدارسون للإنكليزية، بل لأنني خرجت بجواب لا علاقة له بالمغزى الذي يفترض بالقصيدة أن توصله إلى قارئها. تتحدث القصيدة عن تمرد لم يدم طويلاً لشاعر قسيس عندما قرر مغادرة الكنسية، وخلع الطوق الذي يحيط عنقه - حرفياً ومجازياً - ثم عاد إليها في النهاية ليعانق «أباه» (أي إلهه) من جديد. ويفترض بالقارئ أن يتأمل مغزى ذلك، ويتعاطف مع الشاعر الذي عاد نادماً. أما أنا، فقد رأيت الندم أمراً مخيباً للأمل إلى حد بعيد، وكنت مسروراً في بداية الأمر لمغادرته الكنيسة. فلأني مسلم تملكني الإعجاب بقرار شاعر مسيحي مغادرة الكنيسة، لكن ظني ما لبث أن خاب بعودته في النهاية. ظل هذا الموقف يعود إلى ذاكرتي بعد أن توغلت أكثر في ثقافة لم أكن أفهمها جيداً، عندما كنت طالباً في ال23 من عمري في قلب الجزيرة العربية. بيد أنه في الأعوام التي تلت، كان اهتمامي بحالات ليست بعيدة الشبه عن تلك شهادة - في تقديري - على محاولة مستمرة لإعادة التكيف الثقافي والفهم الأفضل لما يحدث على وجه الدقة، عندما يكون أحدنا في مواجهة الاختلاف الثقافي. الحالات التي تحضرني الآن، تؤكد أن العبور من ثقافة إلى أخرى ليس بسيطاً أو سلساً، كما قد يبدو ظاهرياً. فمن الطبيعي، أن تكون الدراسة المقارنة للأدب والثقافة عموماً في قلب عملية التوغل الثقافي هذه، وأنا أفترض أن مهمتها تقديم خدمة كبيرة في فهمنا للثقافات لو كرسنا اهتماما أكبر في التحول من البحث عن أوجه التشابه والتناظر إلى إجراء الفحص والتحليل والتقويم لأوجه التمايز والتوتر الناتجة عن وقوع الكاتب والنص في شبكة الاختلاف الثقافي. كتاب لايمكن تجاهلهم الكتّاب الذين اخترتهم يمكن أن يكونوا أمثلة، لكن مكانتهم الأدبية لا يمكن تجاهلها بالطبع. ولأنهم أسماء مرموقة، فمن الصعب الدفاع عن اختيارهم على أساس التمثيل وحده. من ناحية أخرى، نجد أن اختيار الكتّاب مثل أوسكار وايلد، وليم ييتس، رولان بارت، ميشيل فوكو يمكن أن يكون متعمداً لمجرد أن تلك الأسماء لها ثقل لا يرقى إليه الشك. إنها بالفعل السبيل لإيلاء الموضوع المطروح أهميته. ومع ذلك فإن بالإمكان تناول الأسباب الثقافية التي تدعونا للاختيار، ومن بين تلك الأسباب التوزع النسبي لتلك الشخصيات الأوربية، وأعمالهم عبر المكان والزمان، بل وتنوعهم في حقول النشاط الثقافي الخاص بهم. لكن الأقرب هو اهتمامهم المشترك بالاختلاف الثقافي، وتموضع ذلك الاختلاف في العلاقات ما بين الشرق والغرب. فجميعهم يقاربون نقاط التوتر الثقافي باستخدام النماذج الشرقية، وفي حين، اختار الكتّاب الإيرلنديون الشرق الأدنى اختار الفرنسيون الشرق الأقصى. مواجهة أوسكار وايلد للاختلاف الثقافي، جاءت بصيغة الحوار الإفلاطوني الذي حمل عنوان «اضمحلال الكذب»، وهو عنوان غير مستغرب من كاتب عرف بنزعته الاستفزازية. يكتب وايلد فيقول إن الكذب الذي يعد فناً أصيلاً وخصماً أصيلاً للمحاكاة في الغرب، في طريقه إلى الاضمحلال، والغرب كما يقول بحاجة إلى أن يعيد تتبع الخطوات حتى يصل إلى تلك اللحظات التاريخية التي شهدت إحياءً للفن الأصيل. كان ذلك عندما وجد الغرب نفسه على تماس مع ما يسميه وايلد «الاستشراق» في فنون الزخرفة، وهي صفة كانت تحمل «جوهر» الفن، أو الفن النقي، الفن الذي ينأى بنفسه عن العالم الخارجي ليعيش داخل نفسه. ثم يقول وايلد: ومع اقتراب الغرب من النمط الشرقي في الفن، صار يقدم أفضل أعماله الإبداعية الخيالية. المواجهة التي صورها وايلد ما بين الاستشراق، ويقصد به النزوع الغربي نحو الشرق و«روحنا النزّاعة إلى التقليد»، أو ما يمكن أن نطلق عليه اليوم اسم «الاستغراب» (النزوع نحو الغرب) يوظفها الكاتب على أنها نقد ثقافي. الهدف - الجزئي منه على الأقل - هو دحض الاتهام القائم، منذ ذلك الوقت و وايلد وبعض معاصريه كانوا يمثلون الانحطاط «الانحطاط الحقيقي»، كما يقول وايلد من خلال أحد شخصياته في «اضمحلال الكذب»، هو التقليد، عندما يصبح الفن عبداً للحياة. والهدف الآخر هو وضع الفنون الغربية على الطريق الصحيح المؤدي إلى الإبداع. لم تكن هذه النظرة إلى الفن غريبة تماماً بالنسبة إلى ييتس. ففي العديد من الأعمال نرى ييتس منشغلاً بالعلاقات ما بين الغرب والشرق التي يراها بوصفها متناقضة إلى حد كبير. فطرح الشرق رؤية ثقافية مميزة ومناقضة لرؤية الغرب إلى حد بعيد، سواء أكان ذلك على هيئة شخوص أم أماكن، أم أفكار، أم صيغ فنية. وبالنسبة إلى الشاعر لم يعن ذلك التناقض تباعد الكيانين، الشرق والغرب، وإنما يعني أن أحدهما يكمل الآخر. فعلى عكس وايلد، لم يكن ييتس يرى أن المسألة مسألة تفوق طرف على آخر أو فرصة لنقد الثقافة، إذ تعود الفنون إلى المسار الصحيح. يفترض ييتس في قصيدته «هدية من هارون الرشيد» تعارضاً ثنائياً بين الشرق المنهمك بالبحث عن اللذة الذي يمثله هارون الرشيد، والغرب الذي انقطع إلى الحياة الفكرية والروحية، ويمثله في ذلك قسطا بن لوقا، الطبيب والمترجم الذي عاش في العصر العباسي. يعكس هذان العنصران بالطبع المفهوم الشائع في أيام ييتس، مفهوماً يعد من لب الخطاب الاستشراقي بالمعنى الذي أشاعه إدوارد سعيد. لكن القصيدة سرعان ما تتخذ منحى بعيداً عن المألوف، عندما يصور الشاعر امرأة بدوية يعرضها الخليفة المسلم على قسطا بن لوقا الأعجمي، لتكون زوجة له. ويثير هذا الزواج قضية الاختلاف الثقافي، حينما يخبر هارون الرشيد قسطا بأنه يعتقد «أن الحب له مواسم»، بمعنى أن العلاقة بالمرأة كزوجة يمكن أن تكون عابرة. أما قسطا الذي «اعتنق العقيدة البيزنطية التي تبدو غير طبيعية بالنسبة إلى العقلية العربية» بحسب ما يقول ييتس، فيرى بأنه عندما «اختار عروساً فإنما اختارها إلى الأبد». بيد أن العروس هي نفسها من يرفع التوتر الثقافي إلى أعاليه، وهي التي نتيجة لذلك تهزم توقعات المسلم والمسيحي في آن. فها هي وقد جللها الغموض، ترغم قسطا الضليع في الفلسفة على الجلوس أمامها، كما لو كان طفلاً: على مدى ساعة.. بدت كما لو أنها هي الرجل المتعلم وأنا الطفل، تدفقت حقائق بكر، حقائق لم أجدها في كتاب من تلك التي قرأت دون أن أحصيها... العقلية العربية وفي النهاية، يتأكد بشكل مضاعف ما كان يراه قسطا «غير طبيعي بالنسبة إلى العقلية العربية»، لكن ليس بالمعنى الذي كان يتصوره: تهرب الغرابة الآن من العربي والبيزنطي على حد سواء، والشرق والغرب، في تركيبة بزّت الاثنين معاً. لكن السؤال يظل قائماً حول السبب الذي دعا ييتس إلى اختيار امرأة عربية، لتكون محلاً للتفوق: أليست الهوية العربية للمرأة هي التي جعلت المرأة الخيار الأفضل للعب الدور الذي أسند إليها في القصيدة، في مقابل النساء الإيرلنديات الكثيرات اللواتي يملأن قصائد ييتس؟ الهوية العربية هي، على الأرجح، ما جعل البدوية الأنسب لشخصية المرأة المتجاوزة للشرق والغرب والقادرة من ثم على الجمع بينهما. تأخذ الألغاز التي كشفتها المرأة البدوية شكل رموز كتبت على الرمال، وبعبارة أخرى، لغة يبدو أنها من وحي الجن أملتها على قسطا، لتحير منه عقلاً، غذاؤه أفكار فلسفية، تعود إلى فيلسوف مثل بارمينيدس. تلك اللغة الغامضة هي التي بعد 30 عاماً من تجول ييتس في الثقافة العربية، أخذت بلب الفرنسي رولان بارت، ليأتلف مع الشرق، لكنه هذه المرة شرق أبعد. ففي اليابان التي كان ييتس قبله مهتماً بها أيضاً إلى حد بعيد، سعى بارت وراء نظام آخر من التعبير المحير. ففي كتابه «إمبراطورية الرمز» الذي جاء سجلاً لرحلته إلى اليابان، واجه بارت اختلافاً ثقافياً يرقى إلى مستوى الغرابة التامة والغموض. الحلم: أن نعرف لغة أجنبية وغريبة، لكن دون أن نفهمها... أن نعرف استحالة لغتنا، وهي تنكسر (كالضوء) بشكل إيجابي في لغة جديدة ... وبكلمة واحدة، أن نهبط إلى ما هو عصي على الترجمة، أن نحسّ بصدمتها دونما تلطيف حتى يهتز الغرب بأكمله في داخل نفوسنا، ونلغي حقوق لغتنا الأم... إن استخدام بارت لعبارة الهبوط كمجاز للوصول إلى ما هو عصي على الترجمة في شأنه أن يماهي الغريب بالجهنمي، الأجنبي بمثوى الأموات عند الإغريق، لكن المماهاة مرغوبة بشكل واضح، باستخدام المجاز الذي يقصد منه استجلاء مضامين الرحيل عما هو مألوف وترتاح إليه النفس. يسعى بارت، مثلما سعى وايلد من قبل إلى دفع الغرب نحو مواجهة غير محببة مع الضد المختلف، وعلى غرار قسطا بن لوقا في قصيدة ييتس يود بارت، أن يشير إلى موقف تحصل فيه تلك المواجهة. لكن في الوقت الذي يفكر فيه الأيرلنديان بإمكان تفوق المواجهة التي يفترضونها، يقدم بارت صورة واضحة عن موقف يتعذر فيه مثل ذلك التفوق. بل أكثر من هذا، فهو يستمتع باستحالة ذلك.ينتمي بارت بالطبع إلى بيئة ثقافية شهدت ولادة عصر ما بعد الحداثة وظهور اتجاهات مثل التفكيك، إذ يخضع المعنى للتساؤل ويصبح المنطق حنيناً ميتافيزيقياً في مواجهة لغة مثل اللغة اليابانية، تهتز أشد القناعات رسوخاً، ولا توجه الدعوة بهذه البساطة إلى لغة الغرب، لكي تثري من خلال تأمل الاختلاف الثقافي مع اللغة الأخرى. فهنا يرغم ما هو غربي على التبصر بحدوده، وحملت إلى حدودها القصية. ومعنى هذا هو أن نقد الثقافة يستمر، لكن على مستوى مختلف اختلافاً كبيراً. ذلك النقد مارسه فوكو أيضاً، حين أشار في مستهل تحليله لما أسماه «أركيولوجيا العلوم الإنسانية» ضمن كتاب «نظام الأشياء». ففي ذلك الاستهلال يُعطي فوكو وصفاً للحظات مشابهة للحظات التي تاق إليها بارت في النص الذي اقتبسناه آنفاً. يقول الفيلسوف الفرنسي إن كتابه «مستوحى من قطعة لبورخيس»، ينقل فيها الكاتب الإرجنتيني موسوعة صينية تصنف الحيوانات تصنيفاً غريباً عن القارئ الغربي. يقول فوكو إن الضحك الذي صدر منه عالياً، نتيجة قراءة النص وتأمل التصنيف المذكور: حطم... كل علامات الحدود المرسومة في فكري.. فكرنا، الفكر الذي يحمل طابع عصرنا وجغرافيتنا.. مهشماً كل السطوح المنتظمة، وكل المستويات التي اعتدنا عليها لتدجين الموجودات بكثرتها المتوحشة، ومواصلاً بعد ذلك إرباكه للفروقات القديمة ما بين الذات والآخر بل والتهديد بانهيارها تماماً. توفر ملاحظات فوكو حول غرابة الثقافة الصينية ميداناً للتحليل، الذي قام به في الكتاب المشار إليه لما أسماه ب«رموز الثقافة» التي يرى أنها تحكم في كل ثقافة الطريقة التي ترى فيها تلك الثقافة نفسها وترى العالم. ولكي يصل أحدنا إلى فهم أفضل لثقافته، يقول فوكو يبدو أن عليه أن يواجه آخَرية ثقافة أخرى. فثمة انعطافة يتيحها الاختلاف الثقافي، ودهشة المقارنة حين يبدو المشهد الغريب والأجنبي. إن ما يطلق عليه فوكو «الفروقات القديمة بين الذات والآخر»، تلميح قوي لما توصل إليه بارت بعد أربع أعوام من نشر كتاب فوكو أي في عام1970، فأطلق عليه «الاجتماعية السطحية للغة».