في مناظرته الفكرية الشهيرة التي حصلت مطلع القرن العشرين مع الكاتب اللبناني المهاجر إلى مصر فرح أنطون (1291-1340ه/1874-1922م)، قدم الشيخ محمد عبده (1266-1323ه/1849-1905م) أجود وأبلغ دفاع عن فكرة التسامح في الإسلام، دفاع جاء ليس بقصد المحاججة والمغالبة وافحام الخصم، وإنما بقصد الكشف والاثبات بالاستناد إلى قواعد وأصول على مستوى النظر، وحقائق ووقائع على مستوى العمل. هذه المناظرة جرت على صفحات مجلتين من المجلات التي يؤرخ لها في تاريخ تطور عصر النهضة والإصلاح في المجال العربي الحديث، هما مجلة الجامعة التي أسسها فرح أنطون في الإسكندرية سنة 1899م، وعرفت بنزعتها العلمانية المحضة، وارتباطها المرجعي بالثقافة الأوروبية، والثانية هي مجلة المنار التي أسسها في القاهرة الشيخ محمد رشيد رضا (1282-1354ه/1865-1935م) سنة 1898م، وعرفت بنزعتها الدينية، وارتباطها المرجعي بالثقافة الإسلامية. وما هو جدير بالإشارة أن صاحبي المجلتين فرح أنطون ورشيد رضا ينتسبان إلى بلد واحد هو لبنان، وصادف أن غادرا معا إلى مصر عبر البحر، وكانا في باخرة واحدة نقلتهما من ميناء طرابلس شمال لبنان إلى ميناء الإسكندرية شمال مصر سنة 1897م. وهذا ما تذكره لاحقا فرح أنطون عند بدء تلك المناظرة، وأشار إليه في مقدمة كتابه (ابن رشد وفلسفته) بقوله: (صاحب المنار من أخص أصدقاء صاحب الجامعة، وهو فضلا عن ذلك ابن بلده، ورفيقه في سفره، لأنهما قدما من طرابلس الشام إلى مصر في باخرة واحدة للاشتغال بالصحافة فيها). انطلقت هذه المناظرة عندما نشر فرح أنطون على حلقات دراسة موسعة حول فلسفة ابن رشد (520-595ه/1126-1298م)، جمعها لاحقا في كتاب صدر في الإسكندرية سنة 1903م بعنوان (ابن رشد وفلسفته)، في هذه الدراسة قدم أنطون قراءة إشكالية ومثيرة حول ابن رشد، ونسب فلسفته إلى المذهب المادي وقاعدته العلم، وتطرق إلى علاقة المسيحية والإسلام بفكرة التسامح. وفي هذا النطاق قدم الشيخ عبده مقارنة مهمة شرح فيها المفارقات الكلامية ما بين طبيعة الدين المسيحي وأصوله، وطبيعة الدين الإسلامي مع العلم بمقتضى أصوله، معتبرا أن بيان طبيعة كل دين هي التي تكشف عن مدى تقبل التسامح. وعند الحديث عن طبيعة الإسلام مع العلم بمقتضى أصوله، حدد الشيخ عبده ثمانية أصول هي بإيجاز: الأصل الأول: النظر العقلي لتحصيل الإيمان، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك معه على سبيل الحجة، وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه. الأصل الثاني: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي (صلى الله عليه وسلم) مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ أي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها، ولا سماء بأجرامها وأبعادها. الأصل الثالث: البعد عن التكفير، فقد اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم، أنه إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، يحتمل الإيمان من وجه واحد حمل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت تسامحا مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولا لا يحتمل الإيمان من مائة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية، ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقى في النار. الأصل الرابع: الاعتبار بسنن الله في الخلق، يصرح الكتاب بأن لله في الأمم والأكوان سننا لا تتبدل، والسنن هي الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون، وعلى حسبها تكون الآثار، وتسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها بالقوانين، والذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله، ويبني عليها سيرته، وما يأخذ به نفسه، فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه، فمهما بحث الناظر وفكر وكشف وقرر، وأتى لنا بأحكام تلك السنن، فهو يجري مع طبيعة الدين، وطبيعة الدين لا تتجافى عنه، ولا تنفر منه، فلم لا يعظم تسامحها معه؟. الأصل الخامس: قلب السلطة الدينية، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والارشاد. الأصل السادس: حماية الدعوة لمنع الفتنة، ليس القتل في طبيعة الإسلام، بل في طبيعته العفو والمسامحة، ولكن القتال فيه لرد اعتداء المعتدين، ولم يكن ذلك للإكراه على الدين، ولا للانتقام من مخالفيه. الأصل السابع: مودة المخالفين في العقيدة، أباح الإسلام للمسلم أن يتزوج الكتابية نصرانية كانت أم يهودية وجعل من حقوق الزوجة الكتابية على زوجها المسلم أن تتمتع بالبقاء على عقيدتها، والقيام بفروض عبادتها، ولم تخرج الزوجة الكتابية لاختلافها في العقيدة مع زوجها من حكم قوله تعالى (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) –الروم 21-. ولا يخفى على صحيح النظر أن تقرير التسامح على هذا الوجه في نشأة الدين، مما يعود القلوب على الشعور بأن الدين معاملة بين العبد وربه، والعقيدة طور من أطوار القلوب، يجب أن يكون أمرها بيد علام الغيوب، فهو الذي يحاسب عليها، أما المخلوق فلا تطول يده إليها، وغاية ما يكون من العارف بالحق أن ينبه الغافل، ويعلم الجاهل، وينصح الغاوي، ويرشد الضال. الأصل الثامن: الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، إن أوامر الحنيفية السمحة إن كانت تختطف العبد إلى ربه، وتملأ قلبه من رهبه، وتفعم أمله من رغبه، فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه، ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشف الزهادة، ولا تجشمه في ترك اللذات ما فوق العادة. بهذا الطرح وما له من أهمية وتميز، يكون الشيخ محمد عبده قد وضع أصولا يمكن تسميتها أصول التسامح في الإسلام.