كان انزياح الناس عن القراءة الجادة تدريجيا مع مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن المعلومة كانت حاضرة وتُقرأ على الأقل، والتدوينات الجادة على قدمٍ وساق في شتى المجالات.. وشهدت الأعوام السابقة بروز أسماء كثيرة لامعة في الأدب والفكر والثقافة والسياسة، وسقوط أخرى معروفة لدى الجماهير لانكشاف عوراتها. وبدأت هذه المواقع تدخل لحياتنا من خلال الكتابة ومشاركتها القارئ، بالأفكار والمقالات والاقتباسات.. ثم أخذ البساط يُسحَب من المقروء تدريجيا إلى مواقع الصورة.. وبدأ المقروء ينحصر بالتدريج على عُشاق القراءة، والبقية يبدون مُخدَّرِين بالصورة والمسموعات. لقد لقي البرنامج الشهير "سناب شات" رواجا في الفترة الأخيرة تحديدا، وفرَضَ الجمهور الشبابي ميوله على النخب، حتى صار لهذا البرنامج نجومه أيضا، وصارت النخب الكبيرة في الخليج تحديدا تُحدِّد من وقتها يوميا لتسجيل يومياتها أو موضوعات مختصَرَة، فصار الواحد منا يسمع أكثر مما يقرأ لكثرة المطروح أمامه، في عودةٍ رهيبةٍ للمرويات في زمن الجاهلية! ومجتمعُ الجاهلية يوجد فيه دائما "قائدٌ" يمسك بزمام الأمور ويراقبها، وألسنةٌ تشاغل القوم وتشغلهم بالكلام الجميل.. وتقودهم لأمر هذا القائد بشعور أو دون شعور، عبر سماعهم لها ثم ترديدها لما تقوله وتقمُّصها لشخصياتهم لأنهم المثل الأعلى المطروح في الساحة.. وها هي الألسنة على اختلاف توجهاتها تتنافس على سرقة وقت المتابع؛ لتعطيه ما يسمع يوميا، بما لا يدع مجالا للشك بأن العقل مسروقٌ للقائد "التقنية" ؛ فأعداد المتقدمين على شراء الهواتف الجديدة وتزاحمهم بالطوابير، وأعداد المسجلين في هذه البرامج يفوق أعداد المتواجدين بالمكتبات والمناسبات الثقافية بأضعاف وأضعاف، ولا مجال للمقارنة بين سوق الكتب وسوق البرامج والهواتف! نعم، نحن في جاهلية جديدة تلبس لباس الفخر بالتوافِه، وتتكسَّب بأبناء القبيلة غير "النجوم" من خلال وقتهم وهويتهم وأموالهم، وحين تحاوِلُ إحسان الظن بهذه الجاهلية وإخراج شيءٍ من محاسنها؛ سيصدمك الواقع، فالحديث هنا عن أفضل شريحة من الممكن توجهها للبرنامج بحثا عن "الفائدة"، أي الشريحة التي تحرصُ على متابعة المفيد، لكن الإحصائيات الأخيرة التي أفصحَ عنها البرنامج تجعل الفنانين والمشاهير أكثر الفئات المُتابَعة، ولا توجد بينها شخصية واحدة محسوبة على الثقافة، والأدهى من ذلك وجود عدد كبير من المشاهير يحظون بمتابعات عالية، لكن لا يمكن تصنيف شهرتهم بشكل دقيق.. أي يقدِّمون محتوى أشبه بالفراغ الملهِي.. وبعد كل هذا.. أتساءل: ألسنا نمر بجاهلية ثقافية جديدة فعلا ؟!