لكل مشروع أهدافه الإستراتيجية ومخرجاته التي يمكن من خلالها اختبار صلاحيته ومتانة سياقاته. وبعد انقضاء الدورة الثانية لمسابقة (أقرأ .. iRead) يمكن قراءتها كبرنامج. يمكن مراجعة منطلقاته والمحطة التي وصل إليها. وهي قراءة مستوجبة وضرورية، ابتداء من لافتته المُعلنة التي تُحيل إلى فعل القراءة. وتشجيع الجيل الجديد على التعامل مع الكتاب بحُب وجدية. وهو الهدف الذي يبدو متحققاً من خلال الإقبال الواسع على المشاركة في المسابقة بتزايد طردي. وإعادة الاعتبار للكتاب وما يتداعى عنه من المعارف والفنون والآداب. ولكن، ماذا قرأ هؤلاء خلال فترة المسابقة وما أعقبها!؟ وهل تنادوا لفعل القراءة حُبّا في القراءة ذاتها أم من أجل الاشتراك في المسابقة!؟ وما هو السقف القرائي الذي يحلم به ويخطط له القائمون على المسابقة!؟ وهل الظهور المسرحي للمتسابق يشكل دافعاً للقراءة المستقبلية أم هو صورة من صور النجومية والافتتان بالذات!؟ وإلى أين انتهى مشوار الفائزين والمتأهلين في العام الماضي مع الكتاب!؟ وما هو الأفق المرسوم أو المتوقع لهذا الكم من الذوات القارئة!؟ ومتى سيكون لأولئك المتسابقين دورهم التنويري في المشهد الثقافي!؟. أسئلة كثيرة تبدأ ولا تنتهي. وقد يمتلك القائمون على المسابقة بعض أجوبتها، وبعض استراتيجيات التعامل معها ومخرجاتها. فيما تبقى الخيارات مفتوحة لدى المتسابقين الذين صار يُنظر إليهم كقراء وكأعضاء في نادي القراءة الكوني. أي كملهمين. إذ بمقدور أي قارئ منهم أن يظل في خانة القارئ الجيد، ولا يغادر موقعه بسرعة إلا متاهة الكاتب الرديء. مع العلم بأن هناك من أبدى مقدرة حقيقية على الكتابة. واستأنف مشواره الكتابي بجهوده الذاتية، بعيداً عن أجواء المسابقة، وبمعزل عن وصايا القائمين عليها، الذين ما زالوا يبدون الكثير من التردُّد حول مسألة الكتابة. وعلى الرغم من تأكيد القائمين على الجائزة على حق المتسابق في اختيار ما يقرأ، وإشاعة أجواء ديمقراطية بين المتسابقين، إلا أن التدخل التوجيهي بات ضرورياً في هذه المرحلة. ليس بمعنى إجبار المتسابق على انتقاء كتاب محدّد، إنما بإثارة حوار خلاق ومسؤول مع المتأهلين حول المعنى المتعالي للقراءة، ليتجاوزوا إغواءات الكتب الأكثر مبيعاً، وتلك التي تزخر بالقضايا القومية والحماسة الدينية. وعليه، يمكنهم التماس مع الكتب التي تمتلئ بالمعرفة في كل الحقول وتنتصر للفن والأدب. وهو إجراء يمكن التأكيد عليه للحدّ من انزياح المتسابقين ناحية القضايا الرنّانة التي يتوهمونها طريقهم للفوز واكتساب تعاطف الجمهور. بمعنى فتح الأفق أمام الشباب والشابات على القراءة الحرّة. كذلك يمكن التخفيف من سطوة العرض المسرحي، ومهرجانية المناسبة، وتكثيف جهد المتسابق في امتصاص رحيق الكتاب المقروء. وتحفيزه على تحريك ملكة الحس النقدي في داخله. فهذا هو وحده الكفيل بالاطمئنان إلى كون المتسابق قد استوعب مرادات الكتاب بالفعل. وأنه قادر على تأدية فروض القراءة الإيجابية كما ينبغي. لأن القصد من المسابقة يعتمد في المقام الأول على كفاءة المتسابق في تلقي المعرفة من الكتاب، والتحاور الإيجابي مع وعي المؤلف. وهو أمر يستلزم رفع سقف التحدي عند المتسابق، واستفزاز حواسه نحو جوهر الفعل القرائي، لئلا يكون ضحية لنجومية كُتب الطبعات المتعدّدة والقضايا الساخنة. إذ بمقدور أي متسابق أن يحفظ أي كتاب مهما كان معقداً وإعادة اجتراره على المسرح بدرامية عالية. وربما الفوز بمركز متقدم، خصوصاً بعد أن يتلقى دروس الدورة التدريبية في الإلقاء، التي يوفرها القائمون على الجائزة لجميع المتأهلين. وهنا لا بد من التأكيد على حضور المُلهم الثقافي المعني بالكتاب عوضاً عن مشاهير الإعلام. لأن المثقف هو النتاج الطبيعي للكتاب. أما الإعلامي فهو في معظم الأحيان نتاج الفورات الشفاهية والجرائد والفضائيات. بمعنى التأكيد على المنزع الثقافي للمسابقة. وهو أمر يستدعي بالضرورة تكثيف وجود المثقف في كل مفاصل المسابقة، سواء لحظة رسم الإستراتيجية أو أثناء الإعداد للمسابقة، وفي فترة إجراء المقابلات وأثناء التحكيم. والمثقف هنا لا يعني ذلك الكائن الشاعري المنذور لكتابة القصيدة والرواية والمقالة. بل الخبير الثقافي، بكل ما تعنيه الكلمة من حرفية واختصاص في كل الحقول المعرفية والفنية. إذ لا يخفى أن المسابقة بلغت رشدها بسرعة فائقة، ولم تعد مجرد مناسبة تشجيعية محلية للناشئة. بل صار يُنظر إليها كمكتسب ثقافي عالمي. الأمر الذي يحتّم أن تكون بمستوى التحدي. وأن تعكس بالفعل وعي العقول التي تقف وراءها. إن ما تخلّل الدورة الثانية من هنات استعراضية يهدّد جوهر المسابقة. فهي ناتجة عن وجود جيوب تتطفل عليها وتعمل بذهنية المنتديات والشلل الثقافية. لأن المصادفات المدّبرة التي حدثت على المسرح تشي بمحاولة لاختطاف روح المسابقة وتحويلها إلى كرنفال استعراضي يغلب عليه الهرج والتسطيح. وهو أمر ينبغي تداركه في الدورات اللاحقة. لأنه لا يتناسب مع العقلية الفطنة التي خططت وناضلت باستبسال ووعي وعناد لتظهر هذه المسابقة الفريدة، التي برزت كخيط ضوء نحيل في لحظة معتمة. لا تحتاج المسابقة اليوم إلى حملة علاقات عامة، بعد أن وصلت إلى سن رشدها الثقافي، بقدر ما هي بحاجة إلى برامج مساندة تستثمر مخرجاتها. وعندي يقين بأن العزم والعقلية التي استولدت هذه المسابقة الواعدة، تمتلك من المقترحات المستقبلية ما يستكمل الجهد المشرّف الذي بذل حتى الآن. *ناقد