تكاد لا تختلف سوق عكاظ (في ثوبها المستعاد) بدوراتها السابقة عن المهرجانات والملتقيات الدورية، ومن ضمنها مهرجان الجنادرية السنوي للتراث والثقافية، بل إن التشابه بينها وبين الجنادرية بات يشكّل إرباكاً. ثمة ندوات ثقافية متنوعة تدعى لها أسماء عربية ومحلية؛ وثمة ندوات شعرية تستضاف لها أسماء مماثلة محلياً وعربياً من الجنسين. وإذا ما استبدلنا الافتتاح بالأوبريت الغنائي في الجنادرية بالمسرحية التراثية عن شخصية شعرية جاهلية (كُتب المقال قبل إعلان افتتاح دورة السوق الخامسة بأوبريت غنائي). واستبدلنا الملابس والأزياء الشعبية التي تمثل مناطق السعودية المختلفة بالملابس العربية؛ وغيّرْنا القرى التي تمثل المناطق تراثياً بالخيام الكبيرة المسماة بأسماء شعراء الجاهلية (خيمة الخنساء) و(خيمة النابغة)، وتخيلنا أن الساحة الشعبية الكبيرة في الجنادرية أصبح اسمها (جادة عكاظ) فليس هناك فارق كبير. كما أن كتابة المعلقات الجاهلية في ملصقات وتعليقها ليست هي الفارق الكبير. وليست أيضاً في اختزال القيمة الثقافية لسوق عكاظ في حجب أو منح جائزة شاعر عكاظ؛ التي لن تحقق فيها السوق أكثر من صبغة جوائز البرامج الفضائية؛ إذ تمنح الجائزة بناء على قصيدة أو قصائد تكتب أو ترتجل خصيصاً للمسابقة، الأمر الذي ليس فيه تقدير للتراكم ومستوى النضج الفني للتجارب الإبداعية على المدى الطويل، ومستويات الاشتغال والتجريب والإضافة للمنجز الفني العربي. لذلك أظن أن الأمير خالد الفيصل وعى ذلك، فرمى بحجر من أجل إنقاذ السوق من نهجها التقليدي المباشر، لتكون عند مستوى الطموح، فجاءت مناداته بفكرة تطوير السوق جذرياً. ومن هنا تأتي الرغبة في طرح هذه الأفكار في ضوء ما كانت تمثله تلك السوق من مكانة عربية؛ وفي ضوء ما يصبو إليه الطموح لدى الجميع من استعادة السوق لريادتها العربية. إننا لو تساءلنا عما كانت تمثله سوق عكاظ في العصر القديم وما كانت تمنحه لمرتاديها من مكانة تجعلهم حريصين كل الحرص على ارتيادها لوجدنا أن قيمتها تكمن في أنها كانت تجسد (أهم الملتقيات العربية)؛ اذ كانت سوق عكاظ توحد كل أسواق العرب في الجاهلية في صبغتها وهيئتها الشمولية ،التي لا تجاريها فيها بقية الأسواق الأخرى؛ إذ كان مجرد الحضور فيها شهادة لا تعادلها شهادة. من هنا لماذا لا يكون ل«سوق عكاظ في العصر الحديث» نهجها الواضح ونمطها المختلف الذي يعيد بها هيبتها المفترضة، فيكون خلاصة الملتقيات وذروة التظاهرات العربية الثقافية والفنية المتوزعة هنا وهناك. بمعنى أن تشكل لها هيئة استشارية عربية موسعة من النقاد والمبدعين والمفكرين الأكاديميين وغير الأكاديميين ممن يمثلون مختلف الفنون والأجناس الإبداعية والطروحات الفكرية. هيئة تقدم التصور النموذجي لما يفترض أن تكون عليها السوق فتقدم رؤاها ومقترحاتها، بحيث تخرجها من دائرة الاجتهاد والانفراد بوضع رؤيتنا ل«محفل ثقافي عربي مشترك» في معزل عن شراكة أشقائنا من المثقفين العرب، «وهي آراء بدأنا نسمع شذرات منها هنا وهناك»، وفي الوقت نفسه فإن هذه الهيئة من شأنها أن تحمّل المثقف والمبدع العربي مسؤولية الشراكة في رسم آفاق هذا الملتقى الذي يُطمَح له أن يتبوأ من جديد مكانته، فيعود ليكون قبلة الثقافة والفكر والإبداع العربي. وفي ضوء ذلك، تأخذ سوق عكاظ مثلاً خطوط ملامحها الكبرى فتوسع دائرة اهتمامها بالإبداع العربي الشعري القديم والحديث، ليشمل انفتاحها على الإبداع السردي العربي القديم والحديث. وألا تكون السوق في برامجها وفعالياتها مكررة ومعيدة للدور الذي تنهض به ملتقيات الأندية الأدبية؛ وأن تكون أيضاً أبعد عن تكرار فعاليات ومعروضات مهرجان الجنادرية؛ كي لا تكون نسخة أخرى مكررة من هذا المهرجان الذي أصبحت له خصوصيته، إلى جانب ذلك لماذا لا تكون السوق (بدلاً من عرض مسرحية أو ثلاث) مهرجاناً مسرحياً يتوج المهرجانات المسرحية العربية؛ ويستضيف نخبة نقاد الفن المسرحي العربي ونخبة الفرق العربية؟ ولماذا لا تكون السوق في مرحلة ما مهرجاناً للفن السينمائي العربي؛ وملتقى للتشكيليين والفتوغرافيين العرب، وملتقى للمفكرين والمعنيين بالفكر العربي وقضاياه، والتحديات التي تواجه الإعلام الإعلاميين العرب. وأن تكون فرصة لعقد حلقات النقاش حول أبرز وأهم الكتب العربية الصادرة حديثاً؛ فتكون مناقشة الكتاب فيها حلماً يراود ذهن كل مؤلف في كل مجال. إن وجود هذه النخب والتيارات الفنية المتنوعة جنباً إلى جنب، أدعى لتقديم النماذج الجادة في كل فن، وأدعى لتجنيب كل جنس إبداعي ومحور ثقافي الطروحات الاستهلاكية، التي طالما تأثر مستواها بانغلاقها على نفسها، ودوران كل منها في فلكه فحسب؛ خصوصاً ونحن في عصر التواصل والإعلام الرقمي الجديد وعصر تمازج الفنون وتحطم الجدران الفاصلة بحدة بينها. ولئن اعترض على هذه الدعوة بالتخوف من أن تكون السوق ملتقى (كشكولياً)، بعيداً عن التخصصية في كل مجال، فبالإمكان أن تخصص كل دورة من دورات السوق لفن من تلك الفنون. بحيث يتم التحضير لها بشكل جيد وبتأنٍّ تام. وإذا كان وجود الجوائز أمراً ضرورياً وحافزاً قوياً للحضور ولا غنى عنه، فإنه يمكن إرساء دعائم شروط مدروسة ومقننة تتلافى كل الثغرات التي توجه للجوائز العربية، بحيث تكون لجائزة سوق عكاظ قيمتها الاعتبارية التي لا تضاهيها أية جائزة عربية أخرى. فيكون منحها قيمة للمبدع لا للسوق. فلا يوحي منح جائزة الشعر (مثلاً) بأن السوق تمنحها من أجل كسب اسم شاعر ينعكس اسمه على السوق بما يمنح السوق وجائزتها أهميتهما، بل على العكس، إذ يفترض أن تكون جائزة سوق عكاظ في مستوى ثقل جوائز (الأوسكار) و(البوكر)، فيكون منحها طموحاً كبيراً لكل مبدع، خصوصاً عندما يكون لكل فن وإبداع جائزته المستقلة بفروعها المتنوعة الخاصة بكل جنس، من دون ربطها بمركزية الشعر. فالملاحظ في الدورات السابقة الربط القسري لكل الفنون بالشعر الجاهلي؛ وكأن (كل شيء للعصر الجاهلي)، فالمسرحية الافتتاحية لا بد أن تكون عن شاعر جاهلي، والفن التشكيلي تابع للشعر، فلا تكون للوحة التشكيلية أو الصورة الفائزة جائزتها سوى من خلال كونها قراءة لقصيدة شعرية جاهلية، فهذا الأمر فيه فهم غير دقيق لقيمة سوق عكاظ الافتراضية، صحيح أن الشعر في الجاهلية كان قمة الإبداع الأدبي وذروة الهرم وديوان العرب، لكن ليس شرطاً أن استعادة أهمية السوق الإبداعية والثقافية لا يمكنها أن تتم سوى من خلال تكريس كل ما في السوق للشعر والشاعر في الجاهلية على وجه التحديد، فتبدو السوق وكأنها ليس إلا (متحفاً شعرياً متحركاً)، وملتقى لشعراء وشاعرات جاؤوا ليقرأوا شعراً على مسامع (النابغة)؛ أو جاءوا ليشاهدوا في مجمل برامج السوق (فيلماً تاريخياً) يستعيد حياة الشاعر الجاهلي. ولنتخيل كيف يمكن أن يكون محور الدورة الحادية عشرة بعد أن ينتهي استعراض الشعراء السبعة أو العشرة أصحاب المعلقات. إن استعادة سوق عكاظ ليست بأن تكون جادة عكاظ استعراضاً فحسب، لنمط الحياة الاجتماعية في الجاهلية، حيث الجمال والخيام والحياة البدوية والريفية، فهذا أمر لا تقدم السوق به جديداً، لأنه مما يتميز به مهرجان الجنادرية، لأن ما يُطمح لسوق عكاظ أن يتبناها ويختلف بها عن كل ملتقى آخر، أن تستقل بهوية توحي بأنها المحفل الأهم الذي يعكس هرم الثقافة والإبداع وخلاصة منجز العقل العربي في أزمنة الحضارة العربية إبان ذروة توهجها في العصر العباسي والأندلسي وفي العصر الحديث، لأن هذا هو ما كان ستتطور إليه السوق طبيعياً لو انها استمرت، إذ لو أنه تواصل ولم ينقطع لباتت السوق مزاراً عالمياً وظاهرة ثقافية عربية فريدة. ومنطقي جداً أن يتم تقبل دورات السوق السابقة على أنها كانت بمثابة دورات (إحياء تجريبي). وتبعاً لذلك يكون من الواجب تقديم الشكر والتقدير لكل من قام على إخراج الفكرة من الموات للحياة، لكن من غير المنطقي أن نطمح لأن تكون (سوق عكاظ) قبلة الثقافة والفن والفكر في القرن الواحد والعشرين، وهي على هذا النحو الهجين والمحدود، خصوصاً بعدما أخذت تتداول اسمها وسائل الإعلام، وصار الجميع يعلم بعودتها للحياة من جديد؛ فلا بد عندئذ من أن يكون واقع السوق وراهنه في مجمل برامج دوراته المستقبلية عند مستوى ثقل قيمته القديمة (سوق الثقافة العربية الأهم)، وذلك على أقل تقدير. * كاتب سعودي.