لو عدنا بالذاكرة إلى ما قبل عشرين عاماً مضى لرأينا أن كل من يعرف القراءة ويجد وقت فراغ سيمضيه بالقراءة (أي قراءة)، وكان المقياس للثقافة بقدر القراءة والاستفادة من هذه القراءة، ولو أنك قلت لأولئك القوم أنه سيأتي يوم من الأيام يصبح فيه من النادر جداً أن تجد من يمسك بكتاب لفتحوا أفواههم استغراباً.. لكن لو قلت هذا في زماننا هذا لما استغربه أحد لأن بوادره بدأت فعلاً بالظهور. لقد كنت في السابق أشعر بهذا وأعتقد أن عالم الحاسوب والإنترنت قد اختطفاني من هذه الهواية التي كانت من أفضل هواياتي المحببة لدي، بمعنى أن هواية قد حلت مكان أخرى، فماذا عن الفائدة والتحصيل؟ من وجهة نظري أن الفائدة موجودة لمن يريدها ويبحث عنها سواء هنا أو هناك، لكن ثمة مشكلة برزت لي وهي غزارة المعلومات وتشعبها فمن المستحيل أن أستطيع التركيز في مجال معين فكلما دخلت للبحث عن معلومة وجدتني أبتعد عنها شيئاً فشيئاً حتى تكون عني كالمسافة بين المشرق والمغرب. لكن في النهاية هناك فائدة. وكنت على هذا الاعتقاد حتى ناقشت أحد الأصدقاء وهو ممن لا علاقة لهم بالإنترنت لا من قريب ولا من بعيد فدار الحديث عن المعاناة مع القراءة فوجدت صديقنا يزفر زفرات ألم وحسرة على الكتاب الذي لم يعد يجد له وقتاً.. فسألته عن السبب وعسى أن لا يكون قد وقع ضحية للإنترنت، فقال: إنترنت ماذا يا رجل.. إنها الفضائيات.. أصبحت تأخذ كل وقتي، مشاهدة مسلسل على هذا، وبرنامج وثائقي عن الحيوان والغابة في هذه المحطة، ومتابعة تحليل إخباري على تلك.. وهكذا. وأثناء حديثنا دخل صديق آخر قد دخل عالم مضاربات الأسهم حديثاً بقرض قد حصل عليه مؤخراً من أحد البنوك.. فشارك الصديق الأول زفراته وآهاته على الكتاب المهجور، وكيف أن الأسهم قد أخذت كل وقته، فقلت: هنالك وقت بعد السوق؟ فقال: أقضيه في متابعة التحليلات عبر القنوات الفضائية والمنتديات. أنا وصديقاي مجرد نماذج لمشكلة قد أصبحت قائمة فعلاً.. هذه المشكلة ستجدها عندك وعند الكثير من أصدقائك.. ليس لأن هذا الزمن لم يعد زمن الثقافة والكتاب، بل على العكس، الثقافة ستبقى مطلباً لكل جيل، لكن وسائل التلقي قد أصبحت مختلفة ولم يعد يتفق عليها الجميع كما كان في السابق، بل أنه قد أصبحت لكل وسائله، مستخدم الإنترنت يريدها إلكترونية عبر صفحات الإنترنت أو على ملفات جاهزة يقرأها من حاسوبه، وعاشق الفضائيات والقنوات يريدها مرئية، وسائق الأجرة ومندوب التسويق يريدها مسموعة، إذاً الغاية هي هي لم تتغير.. والوسيلة الأم لم تتغير وهي الكتاب (كمؤلف) (بتشديد اللام وفتحه) لكن وسيلة عرضه هي التي جاءت عليها الاعتراضات وهجرت، وجرت المطالبة بتغييرها، من حيث العرض الإلكتروني فقد جاء في مواقع عدة من أهمها مكتبة الوراق: www.alwaraq.net هذا الموقع الرائع الذي استطاع أن يحصل على جائزة الإمارات لأفضل محتوى، قد جمع المئات من أمهات الكتب القديمة والحديثة وحقق الكثير منها، وجعلها متاحة (مجاناً) للجميع، وقد سبق وأن عرضنا عن محتواه في تقرير سابق، بل أنه قد بدأ يتجه للكتب المسموعة أيضاً. كما أن هنالك العديد من المكتبات الإلكترونية مثل المكتبة العربية الإلكترونية arabicebook.com والتي تتضمن عشرات الكتب الإلكترونية (المجانية) في شتى المجالات والعلوم، وهناك أيضاً المكتبة الإلكترونية الشاملة fiseb.com التي توفر عدداً من الكتب المجانية، وهناك مكتبات إلكترونية تبيع الكتب إلكترونياً مثل e-kotob.com.. وما هذه إلا نماذج للمكتبة الإلكترونية المقروءة. لكن ماذا عن الكتب المسموعة؟ هنالك محاولات جادة لتوفير أكبر قدر ممكن من الكتب المسموعة ولعل من أوائل هذه المحاولات الرائدة والناجحة عربياً المكتبة المسموعة التي رعاها ووفرها المجمع الثقافي بأبوظبي: web.cultural.org.ae/new/audiobooks/table1.html وقد استطاع أن يحول عدداً من الكتب العربية القديمة والحديثة إلى كتب مسموعة بأصوات عدد من المشاهير العرب من أصحاب الأصوات الشجية أمثال الفنان أشرف عبدالغفور، وأحمد عبدالحليم وعبدالرحمن أبو زهرة وأحمد حمزة وغيرهم، ومن أشهر الكتب العربية التي تم تحويلها إلى مسموعة كتاب طوق الحمامة لابن حزم، والمستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين الأبشيهي، والحيوان لأبي عثمان الجاحظ، ومن الأدب العالمي هنالك كتاب حكايات لافونتين للكاتب الفرنسي جان دي لافونتين، وهذه الكتب المسموعة تباع بثمن أقل من ثمنها المطبوع، ووفرت مجموعة لفصول منها (كنماذج) للتحميل المجاني. ولم يكن هذا المشروع هو الوحيد من نوعه، بل أن هناك مشاريع أخرى من أشهرها مشروع الكتاب المسموع من دار السلام للطباعة والنشر: dar-alsalam.com/arsound.asp وهذه المشاريع لن تكون هي النهاية، بل هي بداية البداية، وقد يأتي ما هو أفضل ومجاني، فالفكرة قد طرحت، والحاجة قد أدركت، وإن شاء الله الفائدة ستعم، فالكتاب المسموع من وجهة نظري أكثر فائدة من الكتاب المقروء لسببين، الأول أنك تستطيع أن تسمعه في سيارتك وفي غرفة نومك والآن أصبح في جهاز هاتفك المحمول، والسبب الثاني وهو الأهم أن شريحة المستفيدين من الكتاب المسموع أكثر بكثير من شريحة المستفيدين منه مطبوعاً، وخير مثال على ذلك فئة الأميين وربات البيوت، فهؤلاء ستكون فائدتهم أعظم منه. فهل نرى مواقعنا العربية تتزاحم لتوفير الكتب المسموعة كما تزاحمت المنتديات وأدلة المواقع؟ نتمنى ذلك من كل قلوبنا. ليبقى: خير جليس في الزمان كتاب. [email protected]