يقال بأن القراءة تأتي في الدرجة الثامنة عشرة لدى القارئ العربي من حيث ترتيب اهتماماته اليومية، وعلى اعتبار أن هذه من آخر الدراسات التي تناولت أحوال القراءة في العالم العربي، إلا أن هناك من يرى أن هذه الدراسة وغيرها لم تأخذ في الحسبان بجنس المقروء في العالم العربي، مما يجعل النسبة تتحسن بشكل كبير وملحوظ متى ما أخذت الدراسات التي تعنى بالقراءة جنس ما يقرؤه القارئ العربي، أما دراسات أخرى فتزيد نسبة القراءة في العالم العربي سوءا، إلى درجة تنحسر فيها القراءة إلى ما يشبه العدمية باستثناء النخب الثقافية، بينما تظل دراسات مغايرة تربط بين مستوى القراءة في العالم العربي والخارطة العالمية حيث تشهد القراءة تراجعا كبيرا على المستوى العالمي عطفا على جنس المقروء، مما يجعل القارئ العربي يسكن موجة ضعف عالمية فيما يخص القراءة بشكل عام بعيدا عن جنس المقروء ونوعية القارئ. وبين مد هذه الدراسات وجزرها في عالمنا العربي يستجد ظاهرة سنوية تكاد تتكئ على ما يطرح الكثير من الأسئلة من خلال الصيف العربي والقراءة، والذي طالما تناوله كثر من المهتمين والذين يصفونه بنضوب القراءة وجفاف الينابيع وهجر الحروف. الإعلامي والقاص جمعان الكرت يرى بأن سؤالا كهذا يحتاج إلى إجابة علمية تتكىء على استبانة توزع ميدانيا على شرائح المجتمع لنخلص إن كانت القراءة انحسرت في فصل الصيف أم لا.. يقول جمعان: من خلال رؤية ومشاهدة انطباعية الحظ إن القراءة في الكتب الورقية تزداد تقلصا أمام الزحف الالكتروني. إذ ان الكثيرين استبدلوا الكتاب الورقي بالإنترنت فتجدهم في المنازل والمقاهي يتصفحون المواقع المتعددة ويقرؤون وهم يحتسون الشاي في جميع المشارب أدب.. ثقافة.. فن.. شعر.. رواية.. قصة.. اجتماع .. وغيرها. والتي تتميز بسرعة الانتقال من موقع لآخر. خلاف الكتاب الورقي والتعامل التقليدي معه اما بقراءة كاملة أو الاتجاه إلى كتاب آخر.. ويحتاج إلى وقت وجهد كبيرين. وأضاف الكرت قائلا: هنا ظهر جيل جديد يقرأ وينتقد وينشر ويعلق .. ليس هناك أي حواجز أبدا لما يرغب الوصول إليه ولا يمنع ويحجب ما تنقره أصابعه.. يستطيع ان ينشر ما يشاء وبضغطة زر يصبح مقرءا في أوساط القراء الالكترونيين. صحيح إن الصيف يذهب جزء منه في السفر والترحال وجزء في الاحتفالات وآخر في المشاغل الحياتية إلا أن القراءة الالكترونية من وجهة نظري أصبحت سيدة الموقف في زمننا هذا. المشاهدات التي تعاودنا في صيف كل عام ربما تنبئ عن تغيرات وتحولات ذات فوارق كبيرة فيما يخص تلك العلاقة بين القراءة والصيف وخاصة مع شيوع الكتاب الإلكتروني والكتاب المسموع، وإن كانت مجمل هذه الأنواع من الكتب تصب في إيجابية القراءة إلا أن هناك من الباحثين والباحثات من يصف قراءة الانترنت بالعبث والفوضوية.. وحول مشاهدات في قراءة الصيف يقول الكاتب إبراهيم الخريف: لا يكف أحد المستشفيات عن تأمين أغلب الصحف اليومية وبعض الكتيبات ذات العلاقة بالصحة لمراجعيه وهم في غرفة الانتظار، وقليل من الجالسين من يكف يده عن إحدى الصحف أو إحدى الكتيبات والمنشورات فهم في الغالب مدفوعون لقتل الوقت بالقراءة وقليل منهم من يحجم عن القراءة مكتفيا بالتأمل أو مداعبة الجوال أو ممارسة القلق؛ ومحال تقريبا أن تجد في ذلك المكان من يحمل في يديه كتابا أحضره معه ليقرأه.!!! من جانب آخر اعتبر الخريف بأننا في إجازة الصيف أشبه ما نكون في غرفة انتظار؛ ندرك في أعماقنا أن نداء العمل سينطلق في لحظة ما وأن تلك اللحظة قريبة؛ لذا يلجأ بعضنا لملء بعض فراغه بالقراءة؛ والمجلات والصحف هي الضيف الذي يسامرنا في الصيف ولا نمل منه؛ وهو الأقرب لليد كما هو الحال في غرف انتظار العيادات ؛ بيد أن بعضنا يشتكي من هجرانه الصحف لأن قراءته مصروفة للكتب؛ أي في استجابته للمحرض الداخلي على القراءة. ومضى إبراهيم قائلا: وإن كان فعل القراءة أمرا حميدا على إطلاقه؛ فإن الذي يكسر (بالمتعة المطلقة وليس الآنية) ملل الانتظار في غرفة الصيف بأجوائها الحارة هو فعل (القراءة الموجهة) التي تنبئ غالبا عن ديدن فاعلها في كل فصول السنة؛ إذ إن القراءة بالنسبة له ليس أمرا طارئا أو مؤقتا يتطلب منه تعاملا آنيا ومؤقتا أيضا. وأضاف إبراهيم: أنا مع القراءة الموجهة حتى لو كانت منوعة وحتى لو كانت من خلال الصحف والانترنت؛ وضد القراءة العشوائية حتى لو كانت مكثفة؛ وحتى لو كانت من خلال بطون الكتب؛ الكتاب الذي يكسر حدة الصيف هو الكتاب الذي ينعشك؛ والكتاب الذي ينعشك هو الكتاب الذي يتقاطع مع أهدافك الواضحة.ويجيب على أسئلة لم تبارح شاشة عقلك.مما يضطرك أحيانا لاصطحابه معك لتقرأه في غرفة الانتظار.. رواية، فكر، سياسة، طبخ، نقد، شعر.. .. الخ؛ ليس هذا هو المهم ؛ فكلها في النهاية تحمل الفائدة والمتعة والسؤال الأهم هنا ليس (ماذا أقرأ؟) وإنما لماذا أقرأ؟ صحيح بأن القراءة كالماء والهواء، إلا أن المسألة تتغير عندما نقف على واقع القراءة في الصيف لنجد أن هذا التشبيه بقدر ما هو رائع وجميل إلا أنه لا يخلو من مبالغة كبيرة لما يعتري هذا التشبيه من تبخر بفعل حرارة متغيرات الصيف، الإعلامية والكاتبة الشاعرة حليمة مظفر قالت عن هذا الجانب: القراءة غذاء عقلي فكري ليس صفة فقط عند المثقفين بقدر ما هي سلوك قد تشترك فيه شرائح مختلفة من الناس، وفي السفر لا أحسب أن هناك من لا تتأثر قراءته بذلك خاصة إذا ما كان للسياحة والاستجمام، فأنت تحاول استغلال وقتك في استكشاف المكان بقدر محاولتك استكشاف الأزمنة في قراءاتك. ربما ننظر إلى تدني القراءة صيفا من جانب البديهي والطبيعي إذا ما استعرضنا بوجه عام خارطة القراء وما يشغل تضاريسها من اهتمامات أخرى تنشط صيفا لأسباب رغم كثرتها وتفاوت نسبياتها إلا أنها تعطي المحصلة ذاتها في ضعف القراءة بشكل عام حتى لدى القارئ المثقف والآخر النخبوي.. تقول حليمة: عن نفسي حين أسافر لا أحمل سوى كتابين أو ثلاثة على الأقل من الكتب الخفيفة التي لا تخرج عن حيز الرواية والشعر، وغالبا ما أقرأها وأنا في الطائرة أو في السيارة إن كانت هناك رحلات برية خلال سفري، أما أن أفرغ لنفسي وقتا للقراءة أثناء سفري فهذا ليس ضمن خططي، والتي عادة أضعها للاستكشاف من خلال كثرة تجوالي وتحركاتي بين وجوه الأماكن في المدينة التي أرحل إليها، فحين أقرر السفر للهروب من واقعنا ويومياتنا التي اعتدنا عليها فأنا آخذ إجازة من كل شيء حتى القراءة وأتفرغ فقط لأقرأ الطبيعة والأماكن وسكانها في المنطقة التي اخترت أن أسافر إليها. ربما يأتي إلى أعلى قائمة الميول والاهتمامات الصيفية واستغلال إجازة الصيف فيما يتعلق بجوانب حياتية أخرى، أهم وأبرز عامل يتعب منه الكثير والاهتمامات، ألا وهو عامل السفر الذي يستطيع أن يغير الكثير لدى ما تعوده لقارئ طيلة العام. الروائية وفاء عبد الرحمن تناولت القراءة من هذا البعد قائلة: القراءة تستمر في جذب روادها طوال السنة لا يمنعهم عنها مساء قصير أو ليل تشتد برودته. ومن حاصرتهم مسؤوليات العمل والمسؤوليات الاجتماعية قد يجدون الإجازة فرصة للاسترخاء ومزاولة قراءاتهم المؤجلة. بينما تعتبر عند البعض الآخر ممن يهوون القراءة تمردا على الروتين اليومي يبتعدون فيه عنها من خلال السفر والسياحة ولكن هيهات كلها أيام ويرجع حنينهم لها بنهم. وأضافت وفاء: القراءة لدى كثيرين ليست من أولوياتهم ولكن يجدون في الإجازة فرصة لاقتناص بعض الكتب وقراءتها. وهذا لا يعني عدم وجود مجموعات ليست بالقليلة تمضي إجازتها كاملة وقد قطعت صلتها نهائياً بالكتاب فالأكيد بأن الكتاب بشكل عام مرتبط بالأيام الدراسية حيث يكثر زوار مسكنه الأول وهو المكتبة. فقد يشدهم خلال البحث عن مستلزماتهم الدراسية أوأبحاثهم الأكاديمية اقتناء كتاب سمع عنه من صديق أو أعجبه عنوانه أو اسم كاتب يهمه. بينما ترى وفاء بأن الأنشطة الثقافية ومعارض الكتاب تزيد معها نسبة القراء وتتواصل معها القراءة.. ومضت قائلة: لو أمضيت الساعات أفند أسباب ووقت القراءة في صيف أو غيره سأرجع إلى نقطة البداية وهي أن روح القراءة تتغلغل في أعماق صاحبها كالقدر الجميل لا يستطيع هجرها طوال أيامه. تتنوع مسارات لصيف هنا وهناك مما يجعل هذا التنوع قادرا على أن يطال أنواع القراءة التي ربما تندر فيها أنواع القراءات الأخرى بشكل كبير أمام قراءة التسلية والترفيه، حيث ترى القاصة والإعلامية تركية العمري بأن الصيف مساحة للاطلاع والقراءة لوجود الوقت الكافي للإبحار الفكري والمعرفي، بينما ترى أن شيوع قراءة الترفيه وتسيدها أجواء الصيف مسألة لا نستطيع إعطاء رأي مطلق بشأن نوع من تلك القراءة إلا أنها ترى من جانب آخر بأن معارض الكتب التي تقام في الصيف دافع للقراءة بشكل عام. بينما يرى الأستاذ خالد الحميد بأن شيوع قراءة الترفيه والتسلية مما تكثر ممارسته ويأتي في مقدمة ذلك قراءة الصحف والمجلات، والقراءة التي تقدمها المواقع الجادة على شبكة الانترنت، ويضيف الحميد قائلا: أنا لا أتحدث من منطلق استبانات حول هذا الموضع (القراء والصيف) أو (الصيف والكتاب) أو حتى (الإجازة والكتاب) المسألة هنا مسألة ظاهرة لنا ومما لا شك أن هناك الكثير من الدراسات التي تناولت القراءة من جوانب عدة، وسواء كان الحديث عن القراءة والصيف من جانب الكتاب الورقي أو الكتاب المسموع أو الكتاب الإلكتروني، فالمسألة لا تختلف كثيرا، لأسباب شائعة ومشتركة بين غالبية المجتمع، وبين أغلب شرائحه إن لم يكن جميعها، لسبب بسيط لأن حتى النخبوي هو يعود إلى مدار الأسرة وحركتها ضمن منظومة الحركة الاجتماعية التي نمر بها خلال إجازة الصيف في حلنا وترحالنا الأمر الذي نجد فيه أغلب المستويات متقاربة عند أغلب شرائح المجتمع وعند الجنسين ذكورا وإناثا. وأضاف خالد مستدركا: أنا من خلال تجاربي مع القرءاة في الصيف داخل بلادنا وخارجها، أجد ما يشبه النافذة القرائية التي تنشط صيفا إلى حد كبير، ألا وهي قراءات المسافرين من خلال زياراتهم للمكتبات التراثية العربية والأخرى العالمية، حيث ألاحظ إقبالا وشغفا على قراءة من هذا النوع سواء كانت بدافع الترفيه والتسلية والاستمتاع بقضاء وقت قرائي خلال تلك المكتبات، أو من قبيل قراءة البحث عن المعلومات، إلا أن نوعا من هذه المشاهدات القرائية لا أكاد أجدها بشكل مطلق إلا عند شريحة المثقفين، أو النخب الثقافية. واختتم الحميد حديثه قائلا: يجب أن نضع في الحسبان أسبابا مشتركة يشترك فيها عدد من شرائح المجتمع كالصيف، أو كشهر رمضان الكريم، أو كوجود معرض للكتاب، أو منشط ثقافي خاص بالقراءة وغيرها مما يجعلك أمام مؤشر عام يتراوح بين الهبوط والصعود وهكذا، بينما يتخلل هذه الاسباب المشتركة أسباب تنحصر فقط في شريحة اجتماعية فقط كشريحة الشباب، مما يجعل مسألة القراءة مسألة ذاتية وجمعية، ومسؤولية تعزيزها وتنميتها - أيضا - تأتي على المستويات الفردية والجمعية والمؤسساتية الثقافية. باعتبار أن القراءة أس الحضارة، ونواة كيانها، ومعين مضمارها المعرفي والثقافي، ووسيلة نتاجها في مختلف الجوانب الحضارية والثقافية، يظل رصد الفجوات والثقوب التي تحد من نمو القراءة وتعزيزها خصوصا عند الشباب مسألة شائكة على اعتبار رصد الظاهرة غير كاف، الأمر الذي يحتم على المؤسسة الثقافية ردم وسد هذه الفجوات بما أمكن من برامج جادة تقوم على معالجة هذه الظاهرة، التي يرى الأستاذ محمد العبدالله بأنه لا بد من مشاركة تحقق تكاملية بين الأدوار التي تتكامل من خلال شراكة حقيقية تقودها المؤسسات الثقافية والمنظومة التعليمية بشكل يعزز لدى جيل اليوم والأجيال القادمة جسر الحضارة، ويمده بمدد المعرفة على اعتبار أن الأمة الإسلامية أمة اقرأ، ويضيف محمد قائلا: عندما نتحدث عن ضعف القراءة وتراجعها فهذا أمر ملاحظ، صحيح بأن موجة التراجع في القراءة في عدد من الأجناس المقروءة تعد موجة عالمية، نأتي نحن ضمنها، ولكن المسألة ليست على إطلاقها بمعنى أن قراءة الكتاب الورقي ستظل لكنها في تراجع، لوجود الكتاب الإلكتروني من جانب، والكتاب المسموع من جانب آخر، ومن هنا فالمصب واحد عندما نتناول القراءة، التي يجب أن تعزز لدى أجيال النت بشكل جاد وبطرق هادفة، وخاصة ما تعكسه بعض المواقع الجادة على الشبكة العالمية، لكنك تجد الصدمة الكبرى عندما تجد الكم الذي يقابل القليل الجاد من آلاف المواقع التي يرتادها الشباب حتى أثناء تواجدهم في الأماكن العامة، مما يجعل مهمة الأسرة بالدرجة الأولى، ومهمة المؤسسات التعليمية والأخرى الثقافية مهمة تحتاج إلى تشخيص واقع القراءة في مشهدنا بشكل يكفل معالجة القراءة لدى شريحة الشباب خاصة. وأضاف محمد: المؤسسات التعليمية والجامعية إلى جانب المؤسسات الثقافية، إلى جانب دور الأسرة، من شأنه تحقيق شراكة فاعلة من شأنها النهوض بالقراءة شتاء وصيفا، الأمر الذي سيجعلنا نشاهد من شبابنا من يقرأ في الحديقة، وفي صالات المطارات، وصالات الانتظار، ومن ثم نجد بعد ذلك من يرتاد المكتبات العامة، ومن ثم من يكون الكتاب أيا كان جنسه بصحبته في حله وسفره، هذا ليس من المحال، لكنه أمنية أعتقد أنها أمنية جمعية، لكنها دون أدنى شك أمنية صعبة التحقق كلما نظرنا بإمعان إلى مستوى القراءة في مشهدنا العربي عامة والمحلي خاصة.