إثر كل عملية إرهابية يتجدد الحديث عن أفضل السُبل لمقاومة ظاهرة التشدُّد الموّلدة للإرهاب، وعن الممكن من الوسائل لاجتثاثها من جذورها. حيث تتجدد الاقترحات وتتوالى الاجتهادات من مختلف الجهات والفئات لدرء خطر تلك الجماعات المنذورة لتدمير الحياة. ويكاد يُجمع معظم المحللين والمتابعين وحتى المتضررين من العنف، على أن الحل الأمني لا يكفي للقضاء على تلك الظاهرة، وإن كان ضرورياً. ولذلك تنتعش طروحات تفعيل الثقافة والفنون كمدخل لأنسنة الإنسان وتأهيله لحياة تقوم على الاهتمام الكبير بحالة السلم الاجتماعي. وفي ظل هذا المناخ يظهر فصيل اجتماعي مهجوس بمجادلة الظلاميين من الناحية الفقهية والشرعية والسياسية ليملأ الفضاء الاجتماعي بسجالات صاخبة ومستهلكة مبنية على المحاججة حد الاستفزاز. إلا أن ذلك الجدال لا ينتج عنه أي شيء بل المزيد من التأزيم. في الوقت الذي يتواطأ فيه المتشدّدون وخصومهم من المجادلين على تأجيج الصراع بضجيج يحدث في الهامش ليحققوا نجومية متقاسمة بينهما، قوامها الصراخ والمجابهات المجانية. وهذا الفصيل هو الأكثر استثماراً لحالة التوتر، والأقل فاعلية في الحد من ظاهرة العنف. حيث يمكن التقاط خيوطه في ملاسنات كُتّاب المقالات وأشباه المثقفين المقيمين في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المنابر التي تحتمل الثرثرة التي لا تكلّف صاحبها سوى الكلام. وفي المقابل يبرز فريق آخر يعتقد أن فتح الباب للفنون يمكن أن يكون هو الطريق الأمثل للحد من غلواء التشدد والظلامية. ولذلك يؤكد في خطابه على هذا البعد كخيار مركزي وحيد. حيث يبدو وكأنه يسير في تظاهرة مزدحمة بشعارات تطالب بفتح صالات للسينما وإنشاء المسارح والمناداة بمجتمع الفنون على كل المستويات بدءاً من التعليم. وهو فصيل يشكل نسبة كبيرة أيضاً في المجتمع. كما أن دعوته تلك تشكل أحد عناصر الحل ولكنها لا تختصر معضلة التشدّد. لأن فكرته تقوم على التمنّي. نعم، التمنّي فقط، بدون أي جهد لتوسيع هامش الفن ذاته في الحياة. وبدون أي مساءلة لواقع الفنون القائمة الآن. التي تؤكد مضامينها ورسالتها الفنية على ضعف أبعد ما يكون عن الفن. وهو الأمر الذي يحيل إلى طبيعة الوعي الذي يحتكم إليه هذا الفريق حول ماهية الفن المطلوب لدحر موجات العنف والتشدّد. وبمعزل عن الفريقين: السجالي، الذي لا يتعب من افتعال المعارك. والمتمنّي، الذي لا يمل من التعبير عن أمنياته. تبرز فئة قليلة جداً. لا تستهلك طاقتها في المجادلات الهامشية، ولا ترهن خطابها للمطالبة بفتح الباب لمهبات الثقافة الفنية. لأن هذه الفئة المؤمنة حقاً بالفنون لا تأبه كثيراً لمقارعة من لا يؤمن بجدوى الحوار مع المتعنتين. ولا بقدرة ورغبة القائمين على المؤسسات الرسمية والأهلية في تجميل الحياة أصلاً. ولأنها فئة مهمومة فعلاً بالثقافة والفن تتوجه بشكل مباشر وعملي إلى مهمة التبليغ الجمالي. بحيث يكون منتجها هو المعبّر الأهم عن حضورها وهويتها ومقترحها التجميلي للحياة. لأن هزيمة المتشدّدين بأي شكل من الأشكال من خلال مجابهات كلامية لا يقدم ولا يؤخر ما دام البديل الجمالي غائباً. وكذلك فتح الباب واسعاً لكل أشكال الفن لن يسهم بأي حل ما دام الفرد والمجتمع في حالة عجز عن إنتاج الفن ذاته. التبليغ الجمالي يعني إنتاج النص الفاعل والمؤثر فنياً. النص المحتشد بالرسائل الجمالية، المتخفّف من ضجيج الأيدلوجيا. النص الفائض بالمعنى الذي لا يمكن بحال أن يكون امتداداً عضوياً لما يقال على المنابر، ولا لما يتأسس على حس قهر الآخر وتهشيمه. أي النص الذي يقدم خلاصة التفكير الوجداني والمعرفة الحسّية للمجتمع. وهو ما يعني أن هذه الفئة هي المسؤولة عن إنتاج الخطاب بمعناه التغييري التنويري. وتلك مهمة شاقة جداً. لا يقدر على إتيانها الكائن السجالي التأزيمي، ولا الجماعات المستريحة بانتظار اللحظة التي تفتح فيها المسارح الفخمة أبوابها. وتُضاء صالات السينما بالهباءات تحت عنوان الفن. المجتمع الذي بمقدوره أن يغني ويبدع وينسج القصائد لا يُخاف عليه من التشدّد. والذي باستطاعته أن يروي نفسه بأمانة وجرأة لا يمكن أن يستأثر به الإرهابيون. والذي يستطيع أن يكتب مقالة خالية من التزلف والتبرير والادعاء، مزدحمة بالمعلومات والأفكار والأحاسيس يكون أقرب ما يكون إلى إنتاج المعنى. أي إلى مجتمع الفنون. وهي مهمات جليلة وعرة لا تتطلب السجال، ولا الخروج في تظاهرات بكائية لرثاء المجتمع الخالي من المباني. إنما تتطلب كائنات قادرة على التبليغ الجمالي من خلال نص يتراءى من بعيد كطوق نجاة، أو كخيط ضوء نحيل في ليل الظلامية المعتمة. فبدلا من أن تنتقد المتطرفين وتتلاسن من المتشددين وتسدي نصائح الوطنية والسلم الاجتماعي للإرهابيين، الأصعب والأهم والأجمل هو في كيفية إنتاج ذلك الجمال الذي تلوّح به من بعيد لمن أراد حياة كلها طمأنينة وإبداع وسلام.