كلما تعرض المجتمع لموجة من التطرف ارتفعت أصوات المعنيين بالفن بضرورة إنشاء مسارح وفتح معاهد لتوطين الفنون في المجتمع. على اعتبار أنها الكفيلة بإشباع هوايات الشباب وتنمية مواهبهم، وبهذا يمكن الحد من انزياحهم باتجاه الجماعات الإرهابية. بمعنى استخدام المسرح والدراما والسينما كمساحات لتفريغ الطاقة المجتمعية، وتأسيس حالة من التعادل ما بين الخطابات الفكرية التي يمكن أن تتحكم في حال ومآل المجتمع. وهذه المطالبة مشروعة ولها منطلقات تنويرية نبيلة بدون شك، ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة لإبطال مفاعيل العنف. والملاحظ أن تلك المناشدات تحولت مع مرور الوقت، وتراكم وقائع العنف إلى مناحة لم تقتصر على المشتغلين بالفن فقط، بل اشترك فيها مختلف الفئات الاجتماعية والثقافية. كما صعّد الإعلام تلك البكائيات وتبناها كقضية مركزية من قضايا التنوير التي يُختلف بها وعليها في المشهد الحياتي. وهو إجراء يصب في جوهر اهتمامات الخطاب الإعلامي. إلا أن ذلك الخطاب لم يتجادل مع مأزق الفنون في حياتنا بالصورة الصحيحة. حيث اكتفى بتبني وجهة نظر المعنيين بالفن من مخرجين ومنتجين وكتاب وممثلين، ولم يسائلهم عن معنى وجدوى ما يؤدونه اليوم من رسائل فنية. لا أحد يختلف على أهمية الفنون في حياة البشر، بما في ذلك أولئك الذين يحرمون ألواناً منه لأسباب تتعلق بمعتقداتهم وأفكارهم. فهم يؤدون الفن بطرق أخرى والتواءات تمويهية لأداء رسالتهم. إنما يمكن الاختلاف على معانٍ ومضامين وحرفية وأدائيات الفن من منظور فني. الأمر الذي يحتم إعادة إنتاج السؤال وإعادة توجيهه أيضاً. لأن حجة عدم وجود معاهد ومسارح ومنابر، وإن كانت ذريعة منطقية ومقبولة إلى حد ما، إلا أنها لم تعد على تلك الدرجة من الصلابة ليُحتج بها على عطالة الفنون، ورداءة الإنتاج وبؤس النصوص، وتفاهة الممثلين، وجشع شركات الإنتاج. لأن الممارسة الفنية باتت متاحة على نطاق واسع جداً، وخارج إطار الرقابة. إن عدد المتورطين في العملية الفنية في السعودية آخذ في الازدياد بشكل كبير، سواء على مستوى المسرح أو الدراما أو السينما. وهم على درجة من التماس مع الدوائر الفنية العربية والعالمية. ولهم من المشاركات الخارجية كتابة وإنتاجاً وتمثيلاً ما يجعل من ذريعة ضيق الأفق حجة واهية. حتى المرأة السعودية صار لها ذلك الحضور الواسع. وهو ما يعني أن فُرص الإبداع صارت أكبر. لم يعد التلويح بقبضة المتشددين المتربصين بالفن في السعودية سوى كذبة يلوكها أشباه الفنانين. حيث يُلاحظ أن الإنتاج الدرامي مثلاً، وخصوصاً ذلك الذي يُنتج في الخارج بعيداً عن سطوة الرقابة وعيون المحافظين، على درجة من الرداءة. وأنه أقرب إلى التهريج منه إلى الفن. وما سنستقبله في رمضان من أعمال درامية سخيفة، وما سنتجرعه من مسرحيات نيئة في الأعياد يؤكد هذه الحقيقية، حيث يكبر السؤال كل عام عن حقيقة صلة هؤلاء بالفن والأدب والإبداع. الفن خطاب يتولد في ظل الوعي والتحدي وليس في حضانات المال والنجومية والتدليل. وهو الأمر الذي يستدعي من الإعلاميين تحديداً مساءلة المعنيين بالفن عما يتوقعه المجتمع من هؤلاء الذين يدمرون الفن بمنتجاتهم الفاسدة فنياً على الرغم من هامش الحرية المتاح لهم، ووفرة الدعم المادي. إذ يمكن تصور شكل المسرح الذي سيحتله هؤلاء المستخفون بوعي الناس ومزاجهم. وأي فاعلية لأعمالهم السطحية يمكن أن تصد حالات العنف والإرهاب. فهذه كذبة من كذبات العاطلين عن الفن. الذين يتذرعون بسطوة المتزمتين لتعطيل رسالتهم.