تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي بإعلانات غريبة من قبيل: تحدي القراءة، أو سبعة كتب في أسبوع، أو الف كلمة في شهر، أو كل يوم كتاب وهكذا. وهي دعوات تبدو في منازعها المعلنة تحفيزية للقراءة. وتشكيل رأي عام يُعنى بالكتاب. إلا أن جوهر هذه الممارسة لا يشف عن عشق حقيقي بالفكر والأدب. حيث يتحول الكتاب إلى حصان سباق يُراهن به في مقامرة. كما تتحول القراءة في هذا المدار إلى مسابقة ماراثونية بدون متعة أو مردود معرفي وجمالي. سواء على القارئ ذاته الذي يلهث وراء تحطيم أرقام الصفحات المراد بلوغها، أو على من يتابعونه في المواقع التفاعلية كمتفرجين على مباراة. ومن يتابع أي حملة من تلك الحملات المعنية بالقراءة سيلاحظ أن المتسابقين يضعون بين آونة وأخرى مجموعة من صور الأغلفة للكتب التي يفترض أنهم طالعوها، أو تلك التي تنتظر دورها للقراءة. لكن هؤلاء لا يستخرجون من الكتاب ما يمكن اقتباسه أو الترويج له كقيمة معرفية وأدبية. وليسوا في وارد تقديم عرض للكتاب المقروء، بقدر ما هم في حالة من الحماس لطرح المزيد من الأغلفة وتعداد مآثر الحملة، التي تنتهي بدون أن نعرف أي شيء عن محصلتها النهائية، لتبدأ حملة جديدة بعنوان جديد يعيد إنتاج وهم القراءة في أفق آخر. خصوصاً أن بعض الكتب التي يزعم بعض المتسابقين أنهم أخضعوها للقراءة تحتاج إلى دراسة بالمعنى العلمي للكلمة. لا أحد من أولئك المتسابقين سيخضع لامتحان بعد نهاية أي كتاب. ولن يكون أي منهم في موقع المساءلة عما استفاده من هذا الكتاب أو ذاك، أو حتى من الحملة ذاتها. لأنه هو الرقيب الذاتي على فرض القراءة الذي يؤديه. حيث يمكن أن يوجه للمتابعين إشارات تنم بالفعل عن جديته واستمتاعه بالكتاب. كأن يقدم عرضاً موجزاً لما قرأه. أو يستخلص منه ما يؤكد أن عينيه قد وقعتا على حروفه وكلماته. أو يجادل متابعيه في فكرة لم ترق له أو تحتاج إلى شيء من الجدل للتشارك في خبرات القراءة وهكذا. إلا أن شيئاً من ذلك لا يحدث مقابل فائض من الاستعراضات التي تحط من قدر الكتاب. إن التسابق نحو ابتكار عناوين جديدة وجذابة لحملات قراءة قد يعرّف المتابعين على أغلفة الكتب ولكنه لا يخدم القراءة بهذه الكيفية المطروحة. بل يصل أحياناً إلى درجة العبث. كما حدث في حملة ترتيب أغلفة مجموعة من الكتب الخاصة لتشكل جملة. وكأن الكتب مجرد كتل خرساء لا تنطق إلا عناوين أغلفتها. وهو سباق يأتي ضمن مروحة ظروف موضوعية تسمح بهذا الانتهاك لمفهوم القراءة ولقيمة الكتاب. حيث تؤدي دورات القراءة السريعة دورها في التعامل بخفة مع مضامين الكتب. وهي أداءات تربوية انحرفت عن مسارها لتتحول إلى أداة تشويه للذائقة. إذ لا يمكن فهم دورة قراءة سريعة لمقاربة كتب الفلسفة، أو الاستئناس الروحي بالدواوين الشعرية، أو حتى قراءة رواية مزدحمة بالشخصيات والأحداث والفضاءات المكانية والدلالات. كذلك تأتي هذه الحملات لتواكب حملات مساندة معنية بتحميل الكتب من الفضاء النتّي. وهي هبّات تتأسس على ذات الإيقاع اللاهث وراء اقتناء الكتب واستعراض الأغلفة لبيان قيمة الذات القارئة. داخل حالة من الاستيهامات المضللة. إذ سرعان ما تتبخر تلك المتوالية من الكتب، ويختفي أثرها على الذوات المتسابقة وعلى المشهد الذي يفتقر بالفعل إلى كائنات قارئة تملك الاستعداد للحوار والتشارك في الحصيلة المعرفية. تماماً كما يتعطل هذا البعد بعد انقضاء كرنفالات القراءة التي حولّت فعل القراءة إلى مباراة ما بين متسابقين بمقدورهم تخزين المقروء واسترجاعه على دكة المسرح، وعدم الاعتناء بتحويل الكلمات المقروءة إلى منظومة قيم تنظم السلوك. كل مشروع قراءة لا يأتي في إطار مشروع ثقافي لا يمكن أن يكون له أي مردود معرفي أو جمالي أو أخلاقي أو اجتماعي. سواء جاء تحت مظلة مؤسسة رسمية أو بمبادرة أهلية. بمعنى أن يكون للمشروع أهدافه الواضحة ومخرجاته المعلومة. وهذا هو ما يجعل معظم أندية القراءة تحت هذا الاختبار. لأنها في الغالب تطرح القراءة لمجرد القراءة. وهي التي تتبنى حملات قراءات التحدي تلك. إلا أنها لا تؤدي فروض القراءة كما ينبغي. حيث الحديث الدائم والصاخب عن أهمية القراءة، وعن تحميل أكبر قدر ممكن من الكتب، وعن أفضل الطرق لترغيب الناس في القراءة، وعن آخر ما ألقت به مكائن دور النشر من إصدارات. ولكن بدون انتصار حقيقي لفكرة الكتاب وقدسية القراءة. أي بدون قراءته. القراءة طقس فردي على درجة من الحميمية، ويمكن أن يتحول إلى احتفال جمعي قائم على التشارك. إلا أنه يمكن أن يفسد بمجرد تحويله إلى كرنفال استعراضي. كما يمكن أن يتفرغ من مضامينه بشكل مخل عندما يُساق الكتاب إلى منصات التسابق تحت أي ذريعة تحفيزية. لأن الكتب لا تنطق إلا بقراءتها، وليس بالتعامل معها كاكسسوارت لتزيين الذوات المتشاوفة، أو كأدوات لاجتذاب الطارئين إلى الفضاء الثقافي. وهو طقس يحتاج إلى الكثير من الجدية والصرامة والصدق والرغبة والتنسُّك حد الإيمان بالقراءة كعقيدة. ومن يعانقه تحت عنوان تحدي القراءة سيهجره بذات السرعة التي ينقطع بها حبل الكذبة القصير.