هل تعلم عزيزي القارئ أن أكثر من 92 ٪ من الشركات حول العالم تصنف على أنها شركات عائلية؟ وهل تعلم أن هذه النسبة تزداد في منطقة الخليج العربي؟ والكارثة العظمى التي تحيط بتلك الامبراطوريات هي أن ثلثي تلك الشركات يختفي ويتلاشى بل ينهار في مرحلة الجيل الثالث وهي المرحلة التي يبدأ فيها أحفاد المؤسسين بتولي زمام الأمور، وهذا ما قد يهز اقتصاديات دول وليس شركات فحسب. فالشركات العائلية بالمملكة فقط تجاوزت استثماراتها مئات المليارات، وتشغّل مئات الآلاف من الموظفين وبنسبة مساهمة تصل إلى 25٪ من الناتج المحلي النفطي، وقد يتضاعف ذلك الرقم إذا ما تكلمنا عن الناتج المحلي غير النفطي. وتعود أسباب انهيار وتلاشي تلك الشركات العائلية في مرحلة الجيل الثالث لعدة أسباب، منها على سبيل الذكر لا الحصر: أنه في مرحلة الجيل الثالث تدخل العناصر النسائية كوريثات بمعيّة أزواجهن ودون خبرات أو تأهيل، فإما أن يشاركن بإدارة الشركة فلا يوفّقن نظير نقص الخبرة وانعدام التأهيل، أو يطلبن تسييل حصصهن لاستثمارها في قنوات أخرى، وفي كلتا الحالتين قد يتسبب ذلك في انهيار الشركة. علما بأن هذا السبب يعاني منه حتى قطاع الأعمال في أكثر الدول انفتاحا، كالولاياتالمتحدةالامريكية، وليس في الخليج العربي فحسب، حيث قلما تعطَى المرأة فرصة المشاركة في العمل في مراحل الجيلين الأول والثاني. ومن أسباب انهيار وتلاشي الشركات العائلية أيضا في مرحلة الجيل الثالث استمرار اتباع أفراد الجيل الثالث لسياسات ومنهجيات المؤسسين وأفراد الجيل الأول، وهذا ليس بالضرورة يجدي نفعا، بل يمكن الاحتفاظ بالقيم والمبادئ السليمة وتغيير المنهجيات والسياسات بما يتناسب مع المرحلة التي تمر بها الشركة. قلة من رجال وسيدات الأعمال المميزين ممن تنبؤوا لهذا الخطر القادم وأعدوا له العدة وخططوا للتحضير له بشكل يضمن استمرارية شركاتهم ونموها، وكان من أهم الأدوات التي استخدموها "حوكمة الشركات أو ما يعرف بال corporate governance"، حيث بدأ التركيز يزداد على مستوى العالم في تطبيق حوكمة الشركات مع بدء القرن الحادي والعشرين، والذي واكب انهيار عدة شركات عالمية كشركة الطاقة الأمريكية المشهورة إنرون. فحوكمة الشركات هي وضع القوانين والانظمة والسياسات الداخلية التي تنظم العلاقة بين إدارة الشركة وملاكها من جهة، والأطراف الأخرى ذات العلاقة من جهة أخرى، كالموظفين والموردين والدائنين وكذلك مجالس الإدارات.. الخ. وترتكز حوكمة الشركات على فصل الملكية عن الإدارة، إضافة إلى المساءلة والشفافية وتحديد الصلاحيات، ففي الوضع الحالي وفي غياب حوكمة الشركات لا يمكن مساءلة أي من ملاك الشركات العائلية، أو الحصول على معلومات جوهرية عن الشركة، بينما سيتحقق ذلك وأكثر عند تطبيق حوكمة الشركات بشكلها الصحيح والفعال. ولحوكمة الشركات مزايا وفوائد عدة، منها: زيادة جاذبية الشركات العائلية للشراكات الدولية، حيث إن حوكمة الشركات تعتبر عنصر جذب مهما للاستثمار الأجبني للدخول في شراكات استراتيجية مع الشركة، إضافة إلى تعزيز ملاءة الشركة المالية، مما يؤثر إيجابا على علاقاتها المصرفية وقدرتها على الحصول على تسهيلات ائتمانية توسع من قاعدة أنشطتها، كما تعطي حوكمة الشركات القدرة للملاك على التخارج بشكل عادل ونظامي دون المساس باستمرارية الشركة، كما أن نمو استثمارات الشركة وزيادة قدراتها التنافسية يعتبر رافدا مهما من روافد حوكمة الشركات. وإيمانا بثقل الشركات العائلية ومدى تأثيرها على اقتصاد الدولة بشكل عام، تساهم عدة جهات حكومية وشبه حكومية كوزارة التجارة وهيئة سوق المال، إضافة إلى الغرف التجارية في زيادة وعي الشركات العائلية بحوكمة الشركات، من خلال عقد الكثير من المؤتمرات وورش العمل، إضافة إلى اتخاذ إجراءات تساهم في دعم استمرارية الشركات العائلية. حيث قامت وزارة التجارة إضافة إلى تحويل العديد من الشركات العائلية من شركات ذات مسؤلية محدودة إلى شركات مساهمة مقفلة، ومن ثم إلى شركات مساهمة عامة، بإصدار "دليل حوكمة الشركات العائلية السعودية وميثاقها الاسترشادي"، والذي يتكون من سبعة فصول: التعريفات والأحكام العامة، جمعيات المساهمين، مجلس العائلة، مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للشركة، سياسة العمل في الشركة، التصرف في الأسهم والتخارج وكذلك الأحكام الختامية. بينما أعدت هيئة سوق المال دراسة بعنوان "الحوكمة والشركات العائلية"، والتي تضمنت أهداف حوكمة الشركات العائلية والمخاطر التي تحدق بها، وإيجابيات الحوكمة، إضافة إلى الكثير من الأرقام والإحصائيات التي تدعم تطبيق حوكمة الشركة العائلية، كما أشارت الدراسة إلى حقوق المساهمين والجمعية العامة ومبادئ الإفصاح والشفافية، وكذلك مجلس الإدارة والتعاملات مع الأطراف ذات العلاقة أيضا. وقد يعتقد البعض أن تطبيق حوكمة الشركات أمر سهل من الناحية النظرية على أقل تقدير، بل هو أمر في غاية التعقيد والصعوبة؛ لأنه مرتبط بقابلية ومرونة وتفهم ملاك الشركات للتنازل عن الكثير من صلاحياتهم ومعلومات شركاتهم، بل وللتنازل عن جزء من ملكياتهم أيضا مقابل ضمان استمرارية شركاتهم ونموها، كما أن تطبيق حوكمة الشركات مرتبط باتفاق جميع ملاك الشركة على هذا التوجه، وهو أمر ليس بالسهل؛ نظرا لاختلاف الشخصيات والعقليات والتوجهات بين أفراد العائلة الواحدة. ولتطبيق ذلك يمكن الاستعانة بكبرى دور الاستشارات والدراسات الإدارية والمالية، إضافة إلى الاستفادة من بعض التجارب المميزة للشركات العائلية بالمملكة والتي أثبتت جدواها. كما يجب أن لا يغفل أصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة SME's والتي تعتبر أحد أعمدة مستقبل الاقتصاد السعودي عن هذا الموضوع، وأن لا يعتبروه محصورا فقط على الشركات العائلية الكبيرة والعملاقة، حيث إن عدد تلك المنشآت تجاوز المليوني منشأة، وبلغ حجم استثماراتها أكثر من 260 مليار ريال مساهمة بذلك بثلث الناتج المحلي. بل يجب على ملاك تلك المنشآت الصغيرة والمتوسطة أن يكونوا سباقين في البدء بدراسة تطبيق حوكمة الشركات ولو بشكل مبدئي، حيث إن تسارع وتيرة الزمن في قطاع الأعمال بسبب العولمة والثورة المعلوماتية لن يعطي ملاك تلك المنشآت الفرصة في تدارك الأمور. وعلى مستوى العالم، اهتم عدد من الدول المتقدمة والناشئة بترسيخ القواعد والأنظمة الجيدة لها لاستقرار الأسواق، وذلك للأهمية الجوهرية لحوكمة الشركات في تقدم الاقتصاديات والمجتمعات، ففي عام 2002م قام عدد من الدول ببعض الخطوات الهامة في سبيل تدعيم فاعلية حوكمة الشركات بها، ومنها على سبيل المثال: الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث اقترحت بورصة نيويورك NYSE قواعد للقيد تلزم الشركات بتحديد مديرين مستقلين لحضور اجتماع مجلس الإدارة، كما شملت الرابطة القومية لمديري الشركات لجنة لمتابعة مخاطر الشركات لتدعيم المديرين المستقلين والمراجعة الدورية للمخاطر المحتملة. المفوضية الأوروبية أناطت إلى فريق عمل عال المستوى ببروكسل مهمة تطوير وتوحيد الإطار الشرعي لقانون الشركات، لتدعيم الإفصاح وحماية المستثمرين. اليابان أعلنت بورصة طوكيو TSE أنها ستضع دليلا للتطبيقات الجيدة لحوكمة الشركات لتهتدي به المؤسسات اليابانية، وذلك في سبيل الإعداد لمعايير محلية يابانية، خاصة في ظل توقع بدء سريان العمل بالقانون التجاري الياباني في 2003م. أمريكا اللاتينية اجتمع عدد من المهتمين بحوكمة الشركات في سبع دول في "ساوباولو" للاتفاق على تفعيل مشاركتهم في رابطة مؤسسات حوكمة الشركات بأمريكا اللاتينية. الخلاصة: حوكمة الشركات العائلية هي ضريبة استمراريتها وتوهجها.