مازلت أتعلم وأتأمل أن أكبر الوقائع ترسخا في رحلة الحياة أننا نعيش بين الفِراق والفَراغ، وأن الذي يولد الفراغ بكل أنواعه هو الفراق، فمن فرغ عقله وقلبه أصبح الفراق هو صديقه ومعذبه، وما الفراغ الروحي والعاطفي مثلا إلا فِراق بين الإنسان وربه أو بين محبيه. لذا فنحن البشر في سير دائم، ورحلة دائمة، وتجوال مستمر نحو غاية هي رغبتنا في الهروب من عالم الفِراق والفراغ، ودخول عالم السعادة والاستقرار فيها، وما مواسم الأعياد إلا نوع من أنواع السعادة التي يشترك فيها المجتمع، مستشعرين معاني الحب والإنسانية والبذل، كون الأعياد عند كل الشعوب محطة للفرح وبوابة تظهر فيها أخلاق الشعوب، وما لحظاتنا وساعاتنا التي تحضنها السعادة ربما هي التي طوينا فيها التفكير في ماض انطوت صفحاته، وفتحنا باب المستقبل والأمل لصفحة خط على بابها "السعادة من داخل النفس". لذا فتجارب السفر والرحلة واكتشاف عوالم الناس وأنماط سلوكهم البشري والفكرية والاجتماعية والتعرف على حياة الشعوب وثقافاتها المختلفة هي محطة من محطات السعادة التي يزيل بها المرء بعض الهم، ويروح فيها عن النفس. ففي ذاتها سعادة بالتجوال في عوالم جديدة وقراءة سريعة لعشرات الكتب، وفهم كثير من المعارف واقتناص الخبرات كما يردد دوما ذلك الأديب المصري مصطفى أمين : "رحلة للخارج مساوية لقراءة ألف كتاب" وهذا الأمر ربما ظاهر في الاطلاع على التقسيم الجغرافي والتاريخي لكل ثقافة. ومن يطالع كتاب الإدريسي "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" يلحظ محاولة إبرازه بعض مآثر الجغرافيين وعادات الناس. فقد عرض لأثر الرحلة في نقل المعلومة واعتبار الترحال من أهم المصادر في الوقوف على الحقيقة والقراءة السريعة للأفكار والثقافات، وتبقى الرحلة سواء كانت سياحية أو علاجية أو عبادية أو علمية رحلة لاكتشاف الذات والذوات، ومحطة من تأمل أحوال الفِراق والفراغ، فهو فِراق عن الأهل والأوطان، وفراغ يتعرف فيه الإنسان على نقاط القوة والضعف لديه ومواطن الخلل. وفي المقابل يفتقد الفراغ الوجداني في الغربة والإحساس بقيمة الوقت، لذا سيظل الإنسان كما يقول ابن خلدون في مقدمته مدني بطبعه يخالط البشر ولو تعددت ثقافاتهم وأفكارهم يؤثر فيهم ويتأثر بهم شاء أم أبى، ومن يخالط الناس في موسم الحج بالذات يعرف ويشاهد الكثير كونه يعيش لحظات وأياما لشعوب الأمة الواحدة الناطقة بالتوحيد. لذا فالفطرة ناطقة بأن الإنسان يتأثر وينجذب بمن حوله من حيث لا يشعر ، ويزيد التأثر عندما يخالط الإنسان مجتمعا جديدا وشعوبا أخرى، رصيد الحياة وتاريخها كسبها معارف وثقافة مغربلة الرؤى والاتجاهات. فالاندماج مع الشعوب والتعرف على ثقافاتها في موسم الحج ورحلته العظيمة المليئة بالروحانيات والتضحيات تزيد نسبة إمكانية التأثر والتعرف على مواضع الفِراق والفراغ الذاتي بسبب اختلاف العادات وتباين الثقافات خصوصا إذا كان هو الدخيل على هذا المجتمع فيكون كالغريب بينهم، ينكر كثير من عاداتهم وطبائعهم. ومن سافر خارج وطنه في هذا الوقت تحديدا وجمع أياما مباركة وشرف الزمان والمكان بموسم الحج واجتماع العشر من ذي الحجة ومشاركة الناس في صيام عرفة والأضاحي، والعيد مع الأقارب، ومشاركة فرحة اليوم الوطني الذي يجسد مسيرة حافلة بمفهوم الأمانة الحزم والإنجاز من الملك عبدالعزيز إلى الملك سلمان. والحقيقة أن الحديث عن الوطن وعن حبه حديث مترف، بل من صميم تراثنا وديننا الإسلامي الحنيف. فالمتمعن في تراث الإسلام يجد أن مصطلح الوطن جاء في القرآن الكريم بلفظ الدار والديار ، وجاء في السنة بالمصطلحين، لذا تكون حياة الأمم وحيويتها وسعادتها بحياة الوطن في النفوس بالأعمال والالتزام لا بالشعارات والأقوال والانفصام. فمعاني الوفاء هي كل قصة نظمت حروفها الوطن، فذكرى اليوم الوطني لمملكتنا الغالية خارج البلاد لها نكهتها حين تقرأ في صفحاتها وعبر قنوات التواصل الاجتماعي المباركات والتهاني لتشعر حينها بفَراغ وفِراق، كونه إحساسا فريدا يعكس مآثرها ويوضح حاضرها ومستقبلها. لذا سيظل الأجمل دائما أن نعيش في محيطنا سواء كنا داخل الوطن أو خارجه مستشعرين نقاط الفِراق ولحظات الفَراغ، وأن نبقي في رصيد معارفنا وإيجابياتنا أثرنا الطيب، وأن نكون خير سفراء لبلاد الحرمين الشريفين. وما مواقف ومشاهد المتطوعين ورجال الأمن والمخلصين من شباب الوطن وتعاونهم وأثرهم مع ضيوف الرحمن إلا ميدانا من الفخر والأثر الطيب، فكل عام ومملكتنا بخير وعز نظل نردد والخفاق أخضر يرفع النور المسطر. وتحية للرسامة السعودية التي زينت مطار الدمام بأكبر علم مرصع بالكريستال، ثم تحية لسفارتنا وللمبتعثين في الخارج على صداهم العاطر بفرحة يجتمع فيها العيد بفرحة الوطن، وتحية ودعاء لجنودنا المرابطين على حدود اليمن.