في عام 1950 كتب هنري كيسنجر الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي الأمريكي ووزير الخارجية، أنّ «الحياة معاناة، والميلاد يحمل في طيّاته الموت». وكما يوثق المؤرخ جريج غراندين في كتابه «ظل كيسنجر»: الرحلة الطويلة لرجل الدولة الأكثر إثارة للجدل في أمريكا، فإنّ وجودية كسينجر وضعت الأساس لكيفية دفاعه عن سياساته بعد ذلك. ومن منظور كيسنجر، كما يوضح غراندين، فإنّ الحياة المأساوية بطبيعتها تعني أنّه ليس هناك الكثير ليقوم به أي فرد لجعل الأمور أسوأ مما هي عليه بالفعل. وبطبيعة الحال، هناك اختلاف بين ضحايا المغامرات العسكرية التي أقرّها كسينجر وغيرها من أشكال المعاناة الأخرى. من بين هؤلاء الضحايا عدد لا يحصى من القتلى والمشوّهين من حرب فيتنام، وهي الكارثة التي قاتل كيسنجر لإطالة أمدها على الرغم من الاعتراف بأنه لم يكن من الممكن الفوز بها، وضحايا الحرب الأمريكية السرية التي انطلقت في كمبوديا عام 1969. والمشروع المفضل لكيسنجر والرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون آنذاك كان قصف هذا البلد، مما أسفر عن مقتل أكثر من 100 ألف من المدنيين في أربع سنوات، وذلك وفقًا لبين كيران مدير برنامج الإبادة الجماعية في جامعة ييل، كمبوديا. وحتى يومنا هذا، لا تزال القنابل العنقودية التي أشبعت بها الولاياتالمتحدة بعض الأجزاء في جنوب شرق آسيا تتسبب في أضرار قاتلة. ومن تشيلي إلى بنما والعراق وأنغولا وتيمور الشرقية، ليس هناك ندرة في الأدلة التي تربط زيادة المعاناة الدنيوية بسياسة وتقاليد كيسنجر، التي لا تزال تمارس تأثيرها الكبير على المؤسسة السياسية الأمريكية. (لدرجة تقديم الشكاوى من ضحايا اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا، التي ساعد كيسنجر بشكل غير رسمي في المفاوضات بعد سنوات من تركه لمنصبه). ويلاحظ غراندين أنّ كيسنجر كان له دور كبير في خلق العالم الذي نعيش فيه اليوم، والذي يقبل حربًا لا نهاية لها كأمر طبيعي ونتيجة منطقية. ومن خلال السعي لترسيخ مبدأ «القوة من أجل القوة» دعا كيسنجر للحرب من أجل «توضيح إمكانية فعل ذلك»، كما يكتب غراندين، وبالتالي الحفاظ على القوة الأمريكية، والغرض من ذلك هو خلق هدف أمريكي. ومع هذا النهج الوجودي لا عجب أنّ رجل الدولة السابق وجد أنّ الظاهرة كلها قاتمة إلى حد ما. يذكر غراندين تفاصيل إسهامات كيسنجر في إعادة تأهيل الأمن القومي في الولاياتالمتحدة حول «الرئاسة الإمبريالية المستعادة»، الذي يدعي أنها قائمة على أساس «عروض مذهلة من العنف، والسرية الشديدة، والاستخدام المتزايد للحرب والعسكرة للاستفادة من المعارضة الداخلية والاستقطاب لتحقيق مكاسب سياسية». وأحد الجوانب الرئيسة لدور كيسنجر المهيمن في التاريخ المعاصر هي فلسفته عن التاريخ نفسه، والتي يلخصها غراندين على النحو التالي: «من منظور كيسنجر لم يكن الماضي سوى سلسلة من الحوادث التي لا معنى لها. ووفقًا لهذه العقلية لا يجب النظر إلى التاريخ بوصفه مجموعة من العلاقات السببية القادرة على توجيه خيارات السياسة الحالية تحت أي ظرف من الظروف. ومفهوم النكسة على سبيل المثال قد اختفى بشكل ملائم، وعلى هذا النحو فإنّ كيسنجر معفيّ من الإقرار بحقيقة أنّ العدوان العسكري الأمريكي ضد كمبوديا ساعد على دفع الخمير الحمر إلى السُلطة. وبدلًا من ذلك، تمّ النظر إلى العدوان العسكري الأمريكي على أنه الترياق المناسب للشؤون الجديدة. كما حان وقت الانفصال القسري بين السبب والتأثير في أماكن مثل أفغانستان، البلد الذي غالبًا ما يتم حصرها في تاريخ واحد فقط: 11 سبتمبر 2001. ولكن عُد بالتاريخ إلى الوراء قليلًا، كما يفعل غراندين، وستجد أن تحول البلاد إلى قاعدة عالمية للجهاد نتج عن تأثير السياسات التي وضعها كيسنجر. وبطبيعة الحال، لم يدفع أي شيء من هذا التاريخ إلى إجراء تحقيق داخلي بشأن مؤهلات الولاياتالمتحدة لقيادة الحرب على الإرهاب في مرحلة ما بعد 11/9. والآن، بعد ما يقرب من مرور 14 عامًا وإنفاق تريليونات الدولارات، قد يكون هذا هو الوقت المناسب لمعرفة الحقائق، لا سيما بالنظر إلى اتساع نطاق الحرب لتشمل داعش، وهو كيان ساعدت الولاياتالمتحدة في ظهوره بالأساس. وفي مقابلة العام الماضي مع المضيف الإذاعي تود زويليتش، دافع كيسنجر عن قصف كمبوديا على أساس ما يلي: إنّ الإدارة الحالية تقوم بالشيء نفسه في باكستان والصومال. ولكن كما يشير غراندين فقد فشلت هذه التبريرات أمام حقيقة أنّ ما فعله كيسنجر قبل نحو نصف قرن خلق الظروف الملائمة للحروب التي لا تنتهي اليوم. وفي كمبوديا وأماكن أخرى أضفى كسينجر الطابع المؤسسي على منطق التدخل العسكري؛ حيث أدى التدخل الأمريكي إلى رد فعل وتطلب رد الفعل المزيد من الفعل نفسه. وبالطبع، إذا كانت القوة تعتمد على الدليل الثابت بأنّ «الفعل ممكن الحدوث»، فهذا يبدو إجراءً منطقيًا للغاية، إن لم يكن مختلًا من الناحية الاجتماعية. ولكن بالنسبة لظل كيسنجر، فيبدو أنّه لن يتحرك في أي وقت قريب، لينذر بالعديد من الأيام العصيبة التي ستعاني منها البشرية.