لو قيل لكم إن هناك محافظة سعودية، تُسقى الآن من مياه الصرف الصحي، فلا تستغربوا ولا تظنوا أنها مبالغة، (فإنسان بيشة ونخلته ودابته) ما زالوا يشربون ويسقون من مخرج مائي ملوث، هذا ما أثبته تقرير حكومي موثق، فعلى ضوء شكوى رسمية قدمها أهالي بيشة لمقام وزارة الداخلية، استجابت الأخيرة بتشكيل لجنة حكومية مكونة من عدة وزارات، وكلفتها بالشخوص لمحافظة بيشة والتقت بمشايخها وأهاليها، وطابقت ما دونه المتضررون على ارض الواقع، فكان التدمير البيئي والوضع الصحي الذي عاينته اللجنة أفظع بكثير مما احتواه خطاب الشكوى، فلجنة الإنقاذ كانت شاهد عيان على جريمة بيئية عصرية تاريخية، كان مسرح أحداثها وادي بيشة وبحيرة سد الملك فهد!! عادت اللجنة لصاحب القرار تحمل مشاهداتها وملاحظاتها وتوصياتها، مدونةً بمجمل تقريرها اعترافاً رسمياً (بوجود ضرر صحي وبيئي كبير ووضع نفسي يجب ان لا يُغفل ويحتاج الى تدخل سريع وحل جذري حتى لا تتفاقم المشكلة)، هذه هي الحقيقة فما زالت بيشة تئن تحت وطأة تبعات صرف صحي، خلقت للأهالي حالة توتر دائمة، فمصدر شربهم الوحيد، يتدفق نحوه يومياً 120 ألف طن مكعب من مياه صرف عسير، القادمة من مسافة 250كم لتستقر في سد الملك فهد، ملوثة بحيرته الأكبر في العالم، التي لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي ولا الحيواني، وللأسف دُمِّرت ثروة مائية ومخزون ضخم (يكفي ثلاث مناطق مجتمعة ولأربع سنوات)، هذه المياه الملوثة كان مقررا لها أن تصب في الربع الخالي، فكان لفرع مياه عسير رأي آخر، فلي عنقها الى وادي بيشة، متجاوزا نظام مجلس الوزراء، المُحَرِّم لتصريف مياه الصرف الصحي بالأودية المنتهية بالسدود، ونتيجة الإهمال والتجاوزات الصارخة للنظام، أصبحت حياة الإنسان والحيوان والنبات في خطر مقلق!! تقرير اللجنة وصل لصانع القرار، كان التقرير مترعاً بتجاوزات الموظفين النظامية وتفاصيل الوضع المأساوي، فصدرت التوصيات والقرارات رسميا، وكانت واضحة ومُرضية وباعثة للأمل، وتَباشَر الأهالي بخلاصهم من مشكلة أرّقت حياتهم، إلا أن الإشكالية تكمن في اسناد مهمة الإصلاح وتنفيذ القرارات للجهة الخصم، التي كان الأهالي يترقبون إحالتها للتحقيق ومعاقبتها، لا أن تعاد الضحية لجلادها ليقمعها من جديد، فالأهالي لديهم قناعة بأن لا حلّ لمشكلتهم على يد المتسبب فيها، وقناعتهم أكدها التباطؤ في تنفيذ القرارات وعرقلتها والالتفاف عليها، وما صاحبها من تعتيم إعلامي وانعدام للشفافية، ورغم وجود الأوامر (بتطمين الاهالي) على سير قضيتهم، إلا أن فرع مياه عسير الذي عقد مؤتمرين صحفيين يشرح خططه وبرامجه قبيل قدوم اللجنة، تجاهل تماما اللجنة والقرارات والخطة الجديدة!! وهناك علامات استفهام حول إصرار فرع مياه عسير، على إنهاء مشكلة صرف عسير المزمنة، لتكون بيشة مكانا للحل، متدرعةً بالمصلحة العامة وتحت ذرائع نحتت من الأوهام، فالقائمون على المشروع الجبري (غير المدروس)، حيّدوا الأهالي المعنيين بمشروع رُفض جملةً في مهده، لأضراره البيئية والصحية ومساسه بكرامة الإنسان، وفَرض المشروع رغم الرفض المجتمعي الموثق لدى اللجنة، أرى أن فيه استغلالا وهدرا للأموال، ومصادمة لرغبة الأهالي، هذه التصرفات مزعجة للأهالي، الذين لم تتزعزع ثقتهم في حكومتهم، الصائنة لحقوقهم والمهتمة بجميع شئونهم!! بيشة اقتحمت موسوعة العجائب والغرائب، لتصبح المحافظة الوحيدة التي تعيش الآن أزمة مياه شرب، فالمسئولون أوصلوا مياه الصرف قبل مياه التحلية الخيار الاستراتيجي، التي ما زال الأهالي يستجدونها ويتسولونها على أبواب وزارة المياه وفرع مياه عسير منذ عشرين عاما، وهذا فيه إشارة لخلل في ترتيب الأولويات، وفشل تنموي وبيئي تفسره حالات التصحر والجفاف، والموت الذي يقف على اطراف بيشة!!