الكاتب الذي لا يشعر بأن هناك قارئا قد يخرج عليه من بين السطور..!، هو كاتب لا يتحسس ما يكتب، والكتابة بالنسبة له قد لا تتجاوز الفضفضة والإنشاء، فللكتابة معادلة حاضرة وبديهة، طرفاها كاتب وقارئ، وهذا دائما ما يتحسسه الكاتب المهموم بقضيته، حينما يشرع في الكتابة، ويعي أن خروج القارئ من بين السطور، خروج الناقد، المفكك للمقال، الواعي لما يقرأ. خرج علي مجموعة من القراء كل منهم شاهرا سيف نقده على مقال الأسبوع الماضي «عذرا..محمد العلي.!»، كنت أتحدث في مقالي المذكور، عن التشاؤم الذي نقله محمد العلي للفرد العربي في قصيدته، التي استشهدت ببعض أبياتها، مقارنا بينها وبين مقولة الفيلسوف الأثيني سقراط، التي كانت تحمل روح التفاؤل برغم نكبة أثينا في الحرب البلوبنيزية، هذا باختصار ومن أحب أن يقرأ المقال كاملا يرجع لموقع الجريدة. سوف أذكر أبرز الملاحظات التي جعلت القراء الأعزاء كلا منهم يخرج سيف نقده من غمده، ليقولوا لي قف فقد أخطأت في قراءتك وباستشهادك بأبيات محمد العلي. من هذه الملاحظات،أولا: أنني لم أفرق بين حالة شعرية ذات بعد انفعالي، قد تكون معبرة عن لحظة إنسانية، وبين موقف الشاعر -أي شاعر- من التشاؤم أو اليأس أو ما يقاربها حياتيا وفكريا، ثانيا: النظرة المتشائمة، هي فلسفيا واقعية نقدية، وتعبير مشحون بالحياة والتشبث بها.!!، ثالثا: لدى الشاعر قصيدة تفاؤل في مقابل قصيدة التشاؤم والشاعر يقيم جدلية بينهما، والحياة هي دوما جدلية بين حالات إنسانية دائمة التحول، رابعا: التشاؤم الوجودي أبعد ما يكون عن القصيدة، فهي ليست مقفلة ضد الأمل وإنما هي (حالة) طبيعية يمر بها أي إنسان، عبر عنها العلي برؤية شعرية. هنا انتهى نقد القراء الأعزاء للمقال. وحتى تتضح الصور ننقل ما قاله محمد العلي على هذه القصيدة، فلقد نشر العلي قصيدته المذكورة في جريدة اليوم، في 24 أبريل من عام 2003م على اثر سقوط بغداد، حيث قال «كتبت هذه القصيدة قبل بضعة أشهر. كتبتها تحت عنوان الحاصد تحت حالة من اختفاء كل الملامح من وجه الحياة. وها هي تتكرر الآن بعد رؤية العراق على الشاشات الفضائية مباح الدماء والأعراض والكرامة.... ثم يقول في ختام المقال.. لا شيء يعبر عن هذا. ويبقى السؤال شاخصا: هل انهزم شعب العراق.. لا أبدا..» انتهى. أزعم بأن الذين انتقدوني من القراء الكرام، كانوا في واد غير الوادي الذي كنت فيه، فأنا لم أصف تجربة العلي بأنها متشائمة، بل كل ما كنت أريد قوله، أن أقارن كيف تفاعل سقراط مع نكبة أثينا وتفاعل العلي شعريا مع نكبة العرب وسقوط العراق، وأثر ذلك النفسي على الجمهور، هذه خلاصة ما رغبت ايصاله للقارئ، أما تأويل النص الشعري وحالة الشاعر، فهذا في ظني ليس له أثر يذكر على الجمهور، إنه يعني دارسي النص الشعري والشريحة المهتمة بالنقد الأدبي تحديدا، لهذا يجب أن نعرف بأن النقد الأدبي ليس هو المؤثر، فالنص الأدبي يصل للجمهور ويتعاطى معه بمعزل «كامل» عن رأي نقاد الأدب، ولذلك هناك من نعى النقد الأدبي واستبدله بالنقد الثقافي. وهنا بودي أن أشكر القراء، للفت انتباهي للقراءة الأدبية للنص، مع التأكيد أن قراءتي لقصيدة أستاذنا العلي قراءة ثقافية للقصيدة المذكورة فقط، وليس لتجربته الشعرية، فالقارئ حينما يقرأ قصيدة العلي، قطعا سوف يصاب بالإحباط والتشاؤم، بل أكثر من هذا، لو قدر لشاعر العراق والعرب العظيم محمد مهدي الجوهري، أن يعيش لحظة سقوط بغداد، وقرأ ذات القصيدة التي كتبها العلي على العراقيين، ما الذي سوف يحدثه في نفوس العراقيين؟! أليس التشاؤم وانغلاق الأفق، في وقت يحتاج فيه العراق إلى من يبعث فيه روح التفاؤل، فالانهزام النفسي هو نكبة أعظم من نكبة الاحتلال، استطاع سقراط قبل أكثر من 2400سنة أن يحول الهزيمة المادية التي منيت بها أثينا إلى روح أمل وتفاؤل لدى الأثينيين. وحينما قارنت بين قول العلي وهو الشاعر بقول الفيلسوف سقراط، لم تكن مقارنتي مقارنة فنية، وانما مقارنة ثقافية، أي التأثير الثقافي للقولين على الجمهور، فنحن كثيرا ما استشهدنا في خطبنا وكتاباتنا وحياتنا اليومية بأقوال الشعراء والحكماء والفلاسفة للتأثير على المتلقي، وتركيزنا حينما نقول هذه العبارات هو على البعد الثقافي، وليس الفني، وما يعنينا هو تأكيد حقيقة ما نقول حينما نستشهد بهذه الأقوال، وهنا يجب التنبيه بأن الاستشهاد بهذه الأقوال حينما يكون خاطئا، يعزز لوعي وثقافة خاطئة إن لم تكن لا إنسانية، خذ مثلا قول المتنبي وهو يعد مفخرة من مفاخر الأدب العربي ولكن حينما يقول: لا تشتري العبد إلا والعصا معه ان العبيد لأنجاس مناكيد هنا يسقط ثقافيا وأخلاقيا، وهو قول غير مقبول إنسانيا، وقد تجد من يستشهد به اليوم، برغم السقطة الأخلاقية والبعيدة عن الحس الإنساني في هذا البيت للمتنبي. وكذلك النظرة التشاؤمية السوداوية للحياة نظرة بائسة لحياة الإنسان. كاتب وإعلامي