في عرض ادبي فاخر ولغة رصينة قدم صالون غازي الثقافي العربي كتابه الثاني والعشرين ضمن سلسلة اعلام العرب الذي حمل عنوان (الخطاب الأدبي) لعبد الوهاب الآشي في ميزان النقد. الكتاب قام بتأليفه كل من الاستاذين أ. د. سيد محمد قطب وأ. د. جلال أبو زيد واصدار صالون غازي الثقافي العربي ويأتي الكتاب في مائة وستة وثلاثين صفحة من القطع الصغير وكتب مقدمته د. غازي زين عوض الله والتي ذكر فيها ان الكتاب الجديد يحمل سيرة ثقافية ثرة لاحد اعمدة الادب السعودي المميز والذي يتناول الخطاب الادبي في كتابات عبدالوهاب آشي حيث اختتم كلمته بقوله "ارجو ان يكون هذا العمل بداية قراءة جديدة للادب السعودي المعاصر، قراءة تكشف عن وحدة النسيج العربي في اوراق الابداع ومازلت اقول ان وحدة الصف التي ترقى بالامة العربية الى مصاف التقدم مرهونة بالكلمة التي منحتها لنا السماء لنهدي بها العالم وعبدالوهاب آشي علامة في فضاء الكلمة انار بشعره قلوباً والهم عقولاً. إن اشكالية التعبير الشعري في قول عبد الوهاب الآشي الذي وضعه عنوانا لديوانه "شوق وشوق" في علاقة الانسان بالزمن ونتذكر في هذا الموضوع تحديد الفيلسوف مارتين هيدجر للزمن بأن له اربعة ابعاد في حين ينظر إليه الناس بخاصة النحويين على انه ثلاثي الابعاد فقط لانه ماض وحاضر ومستقبل فالبعد الرابع هو الزمن الكلي الممتد ذلك الزمن الذي يعيش فيه الانسان داخل عالمه الشعوري ويحدد في فضائه اشواقه المتنازع عليها بين ما كان والآن وما سيكون ان هذا الزمن الكلي هو البعد الرابع الذي يحتوي التجارب الانسانية ويمتد في المخيلة بوصفه اللوحة الحيوية التي تتناثر فيها الذكريات والامنيات في تداخل قد يحق للانسان التنازع او الانسجام. ان البعد الزمني الرابع هو فضاء تجربة الشعور والإدراك الذي يمنح الإنسان صفحة لمعالجة مشاعره وأفكاره من خلال إجراءات ذهنية منتظمة تسمح بإنتاج الرسالة التعبيرية التي تعد مادة في دستور علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالعالم، هذا البعد يستجمع الأشواق ويسمح بإقامة الحدود بينها لأن الرغبات الإنسانية متباينة وتنازل تلك الرغبات على الإنسان لا يتساوى في قوته من رغبة لأخرى. يبدو الشاعر العربي مشغولاً بالزمان، وعبدالوهاب الآشي حفيداً لكل الشعراء العرب الذين وقفوا على الأطلال، ولم تكن قضية المكان هي الشغل الشاغل لهؤلاء الشعراء وإنما المشكلة الحقيقية التي تؤرقهم هل الزمان، لم يجدوا الزمن بين أيديهم لكنهم وجدوا بقايا الذكريات منقوشة في المكان لم تستطع العواصل الرملية أن تزيلها وتمحوها، لكن وجودها يدل على البشر الذين انقضت أيامهم كأنها وكأنهم أحلام، كأن التجارب الممتدة في الفضاء الكلي الذي تركن إليه الذاكرة مهددة بالزوال، الإنسان في هذا المقام يخشى فقدان نفسه مع ما يضيع في الصحراء من آثار الظعن، يخشى أن يصاب بالزهايمر الحضاري فلا يجد عالمه الذي جمعه بالأحبة في لحظة كانت في وقت ما حاضرا ثم اندثرت، تلك اللحظة التي مرت منه هي حلمه، إنها لم تعد لحظة بل هي قلب تجربته وخبراته، والمقوم الذي منحه هويته الصحراوية التي تتكرر فيها الحياة بإيقاع هادئ ما يلبث فجأة أن تبدده العاصفة فيذهب كل شيء سدى وتبقى وعد التحقق وانتظار يولد الإبداع، إنها الحياة الافتراضية التي عاش العربي في قلبها، لقد حقق العربي وجودا افتراضيا للاتصال قبل أن تولد "الميديا" الآلية المعاصرة بزمن طويل، هذا العالم الافتراضي هو "فضاء الشوق" الذي أصبح مساراً طويلا تتعدد فيه المحطات فتمضي الذات من شوق إلى شوق. الصورة الدرامية في قصيدة الآشي: لم يقف إبداع الآشي الشعري عند القصيدة الغنائية وإنما كتب الآشي القصيدة الدرامية التي يندمج فيها السرد بالشعر فيكتسب صوت الشاعر الذي يتحدث في الغالب عن تجربة بطله بضمير المتكلم شخصية الراوي الذي يقدم حكاية اختار موضوعها من تجارب الحياة المحيطة به وتحدث من داخل القصيدة بوصفه صوتاً مغايرا لصوت الذات الملتصقة بالشاعر دائماً، فالشعر في غالب الأمر صوت والسرد صورة، واندماج السرد بالشعر و تسكين الشاعر القصة في أبياته يعد نموذجاً جماليا يتضمن جملة ثقافية في فضاء النص، إن البيت الإبداعي يعادل البيت الإنساني الاجتماعي والحضاري، لا بد أن يحتضن المذكر والمؤنث معا في مودة تؤلف بين العنصرين لخدمة الحياة، هذا التعبير الذي استخدمت فيه المجاز يحدث في القصيدة القصة أو القصة القصيدة التي يتزاوج فيها الصوت الشعري بوصفه رمز الثقافة الذكورية مع الصورة السردية بوصفها رمز الثقافة النسائية لم يكن عبدالوهاب الآشي أول من أبدع القصة التي تستمد من شع رية السرد جماليات الصورة الحيوية، فالشعراء العرب القدماء أدركوا ذلك وحفلت قصائد الأعشى والحطيئة وعمر بن أبي ربيعة وابن ميادة والعباس بن الأحنف بالصور الدرامية لكن القصيدة الحديثة اتسعت بهذا البعد الجمالي وربطت أكثر بين الفنون الإبداعية فأفادت من الأبجدية التشكيلية لكل فن في إثراء العمل الأدبي فظهرت القصة الشعرية في إبداع الشعراء بخاصة خليل مطران وكتب إيليا أبو ماضي القصة الرمزية وتطورت القصة الشعرية لتتجاوز البيئة التقليدية للحدث والعقدة والحل أو لحظة التنوير إلى القصة غير المكتملة أو الموقف العابر الذي يقدم مشهدا سريعا بوصف الكلام عدسة كاميرا تلتقط لحظة درامية من تلك اللحظات التي نرصدها في ميناء المشاعر كما عند علي منصور وشعبان يوسف في قصيدة النثر، كتب الآشي عددا من القصص الشعرية، نقدم منها قصيدته "من واقع الحياة الأليم" وقدم الشاعر الأبيات بعبارة "قصة قصيرة شعرية واقعية" يقول فيها: غالها الفقر في ربيع صباها واحتواها الزمان في يوم نحس غادة كالصباح مرأى وإشرا قا وقطر الندى طهارة نفس صوتها الناعم الشجي كناي يطرب السمع في حنان وجرس الأنثى في أشعار الآشي أجاد الآشي وصف شخصية الأنثى بصفات الجمال الحسي والبعد الاجتماعي والعمق النفسي، وقدم الشخصية الأنثوية في سياق الزمان الذي وضعها في هامش الجدب فكأنها في شتاء الحياة، بينما زمنها الخاص هو الربيع، أجاد الآشي هذه المقابلة، ومن الواضح أنه يتمتع برصيد ثقافي متميز في فن الوصف، استمد هذا الرصيد من الشعر القديم ومن الشعر المعاصر الذي يتواصل معه في مصر والشا والعراق، وعبدالوهاب الآشي عاصر أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ ابراهيم وشاعر القطرين خليل مطران وثلاثي الديوان المازني وشكري والعقاد، وشعراء أبوللو أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وعاصر معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي وشاعر الكوخ محمود حسن إسماعيل وهؤلاء كلهم أجادوا الوصف لكن من الواضح أن الرجل ينتمي إلى الحلقة الرابطة بين الإحياء والرومانسية، أي أقرب في نموذجه الشعري إلى خليل مطران وفي نموذجه النثري إلى الرافعي وميخائيل نعيمة. إن الصورة التي أتى بها عبدالوهاب الآشي تنتمي من حيث الوصف إلى النموذج التقليدي العربي الذي لا يخلو من تطعيم بالثقافة الأجنبية بخاصة نموذج الفتاة الضحية التي فرض عليها المجتمع أن تتسول بجمالها، لكن الرجل لم يمض في معالجة موضوعه كما شاع في التيار الرومانسي أو الواقعي من بعده، فقد صوّر الرومانسيون المرأة التي تبيع نفسها بالمال نتيجة الظروف الاجتماعية بأن في أعماقها قديسة وهذا النمط مأخوذ من الثقافة الغربية كما نجد عند الأب انطوان بريفو في "مانون ليسكو" أو الكسندر دي ماس الابن في "غادة الكاميليا" جاء الواقعيون فأعادوا صياغة النموذج بتصوير الأهوال التي تراها تلك المرأة، بل إن المجتمع هو الذي يدفعها دفعا في طريق الانحراف كما هو الحال عند يوسف إدريس في الحرام أو العيب، وقدم أمل دنقل في الشعر الواقعي هذا النموذج بروعة تفوق الحد لأنه ربط بين أشكال السقوط الاجتماعي والحضاري والنفسي في لوحة واحدة. الآشي في عيون مؤلفي الكتاب يعد الآشي أحد كتاب المقال الصحفي الذين يتمتعون بنزعة عقلية، وهذا ما جعلنا نعقد مقارنة بينه وبين الفيلسوف زكي نجيب محمود، فوجدنا الكاتبين كليهما ينظران إلى القضية التي يتعرضان لها بأكثر من زاوية، أو يمكن القول إن عبدالوهاب الآشي مثله مثل زكي نجيب محمود يستطيع أن يرى الموضوع من وجهة نظر الذات مرة ووجهة نظر الآخر مرة أخرى، بحكم أن الكاتب صاحب النزعة العقلية يدرك تمام الإدراك أن الإنسان متعدد المقومات الذهنية والوجدانية، وأن الهوية هي جماع عناصر متباينة في النفس الإنسانية الفردية والجمعية.يقوم الآشي بدور الذاكرة الجمعية لكنه لا يستدعي الماضي للحديث عنه وتقييمه وإنما للإفادة منه في صناعة الحاضر، وعبدالوهاب الآشي من وجهة نظري في مجال الإعلام مثله مثل أحمد شوقي في مجال الشعر، فقد كان أحمد شوقي ذاكرة لأمته، وما يقال عن شعر المناسبات عنده هو احتفاظ بنسيج الهوية ومحاولة لربط الماضي بالحاضر.