«طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    إطلالة على الزمن القديم    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    فعل لا رد فعل    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علي الدميني: العلي طردني من مكتبه وقال لي: «أنت أناني»
نشر في الحياة يوم 16 - 10 - 2012

أكد الشاعر علي الدميني أنه لم يكتب كل ما يريد كتابته في الكتاب الذي أصدره حول محمد العلي، وعنوانه «أمام مرآة محمد العلي» الصادر عن دار الانتشار العربي ( بيروت)، فهو مثلاً لم يكتب عن سيرته السياسية في العراق وفي السعودية. وأضاف في حوار مع «الحياة» أنه أيضاً لم يكتب كثيراً عن سيرتهما الشخصية المشتركة، كاشفاً أن العلي طرده ذات يوم من مكتبه، وقال له «أنت أناني» في موقف آخر. وقال الدميني إن «العلي مبدع ومفكر وكاتب وطني، صاحب الرؤية التقدمية والموقف الثقافي والحضاري، وهو قبل ذلك وبعده أبرز أساتذة الأجيال الجديدة الحية في بلادنا، وأحد أهم رواد التنوير والحداثة الشعرية والفكرية فيها أيضاً، إذ يقف بقامته المديدة إلى جوار القمم التنويرية القليلة في عصرنا الحديث، من أمثال محمد حسن عواد، وحمزة شحاته، وعبدالله القصيمي، وحمد الجاسر، وعبدالكريم الجهيمان، مثلما نجد موقعه في مقدم المثقفين البارزين في حياتنا الثقافية اليوم وغداً، مثل الغذامي والبازعي والسريحي ومعجب الزهراني ورصفائهم الآخرين».
أكثر من أمر يجمعك أو يمثل مشتركاً بينك وبين العلي، الشاعر والمثقف الكبير، هذه المسألة لا يمكن لمن يعرفكما سوى أن يقرّ بها، لكننا مع ذلك نسأل عن الدافع إلى تأليف كتاب ضخم، نوعاً ما، عن صاحب قصيدة «لا ماء في الماء»؟
- الجملة الأخيرة في سؤالك يا صديقي تستحق وقفة تأملية فاحصة، ولكنني سأقبلها على محمل ما يستدعيه البعد الصحافي في الحوار وليس على ما يقتضيه البعد الثقافي من حمولات مخفية، خصوصاً أنك قرأت الكتاب بشكل كامل، تبدّى لي جلياً في وقفاتك على الأسئلة الأخرى. ولهذا سأتجاوز محاورة السؤال للقول بأن محمد العلي ليس شاعر قصيدة «لا ماء في الماء»، كما ذهب إليه السؤال، ولا ما سميته أنا بالمجموعات الشعرية المنشورة في مجلد واحد بالعنوان ذاته، لأن منجز العلي الثقافي والإبداعي أضخم من ذلك بكثير! إنه المبدع والمفكر والكاتب الوطني، صاحب الرؤية التقدمية والموقف الثقافي والحضاري، وهو قبل ذلك وبعده أبرز أساتذة الأجيال الجديدة الحية في بلادنا، وأحد أهم رواد التنوير والحداثة الشعرية والفكرية فيها أيضاً، إذ يقف بقامته المديدة إلى جوار القمم التنويرية القليلة في عصرنا الحديث، من أمثال محمد حسن عواد، وحمزة شحاتة، وعبدالله القصيمي، وحمد الجاسر، وعبدالكريم الجهيمان، مثلما نجد موقعه في مقدم المثقفين البارزين في حياتنا الثقافية اليوم وغداً، مثل الغذامي والبازعي والسريحي ومعجب الزهراني ورصفائهم الآخرين. لذا كنت أقف في كتابي أمام هذا الهرم الضخم متأملاً ومتسائلاً ومحباً، كما طمحت إلى أن أكون بهذا الكتاب قد شكّلت لوحة بانورامية تفتح للقراء أبواب التعرف على عتبات مشروع هذا الرائد، الذي غمطه الزمن حقه، وأغمضت المنابر الثقافية الرسمية عنه أعينها، إذ لم يكرّم إلا من بعض الجهات الأهلية!
قسمت الكتاب إلى أبواب عدة، وكل باب يتناول جانباً مفصلياً من تجربة العلي، هذه الأبواب وطريقة معالجتك لمواضيعها لا تكشف لنا فقط ثراء العلي وتنوعه، إنما تضعنا أيضاً على مقربة من الموهبة التي تتمتع بها أنت كقارئ وناقد ومتأمل لهذا التنوع، فكل موضوع من المواضيع التي تناولتها يحتاج آلية معينة للقراءة، وهذا ما يقف عليه القارئ، فكيف استطعت أن تكشف عن ثراء العلي، وفي الوقت نفسه تظهر ما لديك من أدوات وعدة ناضجة؟
- سؤالك هذا «يفرحني فرح العاشقين» كما يقول العلي في أحد حواراته، ولكنني أصدقك القول بأنني ما زلت أشعر بأن خبرتي الثقافية وأدواتي المعرفية التي وظفتها في مقاربة منجز العلي، كانت أكثر تواضعاً مما كنت أتمناه، ولكن حسبي أن فتحت الباب على نهر يشق طريقه بعذوبة ودأب في الصخر والرمال، ويستحق من المتخصصين والمهتمين أن يفتحوا أبوابهم على كل نتاجاته - دراسة وحواراً ونقضاً - ليقفوا عن كثب على كل أطروحاته الثقافية وتجلياته الإبداعية!
قلت في مقدمة الكتاب: «لن يجد عشاق تحطيم الرموز ما يبهجهم في هذه الكتابة، لأنها تندرج ضمن ما سماه بعض النقاد كتابة المحبة»، فهل جاء هذا التوجه نتيجة لعلاقة الصداقة الزمنية الطويلة التي تربطكما، أم لأسباب لم توضحها في كتابك؟
- الفارق العمري بيني وبين محمد العلي يتجاوز ال20 عاماً، لذلك فإن كتابة المحبة لم تأتِ نتاجاً لألفة زمنية عشناها معاً، كما أنها لم تتشكّل كعشق صوفي للمطلق، أو كحب عذري خطته حياة قيس بن الملوح، أو كمقاربات وجدانية رهيفة كتلك التي خطها ابن حزم، في الإلف والإيلاف. كتابة المحبة هنا تنبع من إعجابي وتقديري ومن ثم محبتي لنصين يمثلهما محمد العلي: النص الأول يتجلّى في الموسوعية المعرفية العقلانية والتقدمية التي يصدر عنها، وفي حواره معها وعنها، مثلما يتبدّى في ولعه بشعرية الإبداع الأدبي في المجالات كافة، وفي موهبته النقدية التي تستمتع بتلك الإبداعات وباشتغالها على تحليل معطياتها الجمالية «دلالة وتشكيلاً»، والتبشير بها في حواره مع الآخرين، سواء عبر الكتابة في الصحافة، أم عبر اللقاءات الخاصة مع الأصدقاء.
أما النص الثاني فيأتي من الإعجاب بموقفه الأخلاقي والإنساني الصادق والشجاع، إزاء تحديات الحياة المعاشة كافة، في بعدها اليومي، أو الثقافي، أو السياسي، أو النضالي، إذ لا يختلف موقفه العملي عن موقفه المعرفي، أوالأيديولوجي، سواء قاربناه في إبداعه الشعري، أم الفكري، أم في كتابته للصحف السيارة، على رغم كل محددات حرية التعبير القاسية التي مرّ بها! لذلك تأتي كتابة «المحبة» حالة ثقافية تتوخى الدقة والصدقية، من أجل الشروع في نقش الخطوط الأولى لعتبات مشروع رائد ثقافي مثل محمد العلي.
بعد أن نشرت الكتاب، وأصبح الآن بين يدي القراء، سنسألك: هل أغفلت جوانب أخرى في وقفتك أمام مرآة محمد العلي؟
- نعم: لقد أغفلت أطرافاً منها، وفاتتني أبعاد أخرى. حدث ذلك عمداً أو تقصيراً، أو لأسباب مختلفة، ومن ذلك: أ - سيرته السياسية في العراق وبعد ذلك في السعودية، التي نعرف بعضها ونجهل الكثير منها! ب - الخلاف أو الخصومة بينه وبين الدكتور الغذامي، التي تعود في عمقها إلى جذور معرفية يمكن لكليهما تقبلها كاختلاف قابل للتعايش الحضاري والثقافي، وأعلم أنها قد تجلت أحياناً في شكل من التقدير المتبادل لبعض المواقف أو الاستهدافات أو الإنجازات كإعجاب الغذامي بأستاذية العلي، وكإعجاب العلي بما يقدمه الغذامي في مجال النقد الثقافي، خصوصاً ما أصدره عن المرأة واللغة، ولكن تلك العلاقة تتعرض إلى متغيرات تقودها لأن تصبح حرباً إقصائية جاهلية من الطرفين، مع الأسف! ج - السيرة الشخصية المشتركة، «إنسانياً وثقافياً وإبداعباً»، إذ لم أتطرق إلا إلى القليل من تفاصيلها، ولعل هذا الجانب يكون نواة لمشروع كتابة مستقبلية، إن أذن لي بذلك. ولكي أحفّز ذاكرة أستاذي محمد العلي، سأذكّره بذلك اليوم الذي طردني فيه من مكتبه حين جئته وسيطاً لأحد الأصدقاء في أمر عائلي، أما الموقف الآخر، فأذكر أنه قال لي أمام عدد من الأصدقاء، في لحظة مفصلية من حياتي العائلية: أنت أناني! غضبت منه كثيراً، أو تألمت بمرارة، ولكنني بعد مدة قصيرة أدركت أنه كان صادقاً ونزيهاً حين عبّر عن رأيه ذلك!
يظهر العلي في كتابك شخصية فريدة فعلاً يصعب تكرارها، ألم تكن المهمة صعبة بالنسبة إليك وأنت تقارب مثل هذه الشخصية؟
- نعم: إنه لكذلك، فليس في بلادنا من يضاهيه في تعدد مواهبه الإبداعية والفكرية والنقدية الأدبية، والكتابة الثقافية، معاً، وبتميّز باهر، ولكن حلمي القديم الذي كان مستحيلاً في زمن مضى للكتابة عنه، حين لم تكن كتاباته وقصائده جمعت في مجلدات، أصبح الآن سهل المقاربة حين تم نشر تلك الإنجازات، وبطبيعة الحال فإن كتابتي عنه تعد خطوة أولى ناقصة للتعرف على ملامح مشروع علم مثله، وهي بحاجة إلى من يكملها أو حتى يلغيها من الباحثين والمهتمين في ساحتنا الثقافية.
تحدثت عن وجود مقومات رائد مشروع ثقافي، لكن في ظل عدم توافر عنصرين مهمين، ذكرتهما في كتابك، هل يعني ذلك أننا خسرنا مشروعاً ثقافياً رائداً؟
- العلي امتلك ولا يزال يمتلك عدة معرفية وإبداعية، وكاريزما ثقافية قيادية، تؤهله لأن يكون صاحب مشروع ثقافي جديد، يقطع مع المناخ التقليدي تفكيراً وإبداعاً، ويؤسس لأفق حضاري ثقافي مختلف. حضور العلي كان جلياً - على رغم الظروف القاسية - في مقالاته للصحف وفي محاضراته، وفي شعره، وفي مواقفه الوطنية الصادقة والنبيلة، لكن الظروف لم تعنه على تحويل تلك النتاجات الفكرية والإبداعية إلى مشروع يعمل على الحفر فيه ونشره تباعاً في كتب، تجد طريقها إلى القارئ العربي في كل مكان.
تقول إن العلي لم يستثمر عدته المعرفية الناضجة بما يكفي، لوضعه في واجهة أبرز نقاد الأدب، في الواقع أمور عدة، كما ذكرت في كتابك، كانت تعوق العلي أن يكون رائد مشروع تنوير، ثم أن يكون ناقداً أدبياً بارزاً، ثم إنه شاعر كبير له تأثيره على سواه، فهل القصور هنا لدى العلى نفسه، كون فعله يرتهن إلى الانفعال وليس إلى التخطيط، التخطيط للمشروع الثقافي أو النقدي أو الشعري، ثم الشروع في الكتابة، أم في الواقع الذي يعيش فيه؟
- لا يختلف القريبون من العلي أو المتابعون والدارسون لنتاجه الغزير والمتعدد المناحي في وسمه بصفة المثقف الموسوعي، والشاعر الكبير وبأبي الحداثة في المملكة، بيد أن الواقع الثقافي والاجتماعي الخانق لمثل هذه الموهبة، يعمل مع الزمن على توريثنا عادات سلبية، منها «عطالة» الكسل، وهذا ما أحسّ به أنا شخصياً خلال السنوات العشر الماضية.
تداخل النقدي أو جدله مع الحقل الفكري في تجربة العلي، بدا أمراً في غاية الأهمية، فكما نعرف أن نقاداً كثراً يفتقدون البعد الفكري أو الفلسفي في نقدهم، بما يجعل العملية النقدية لديهم محدودة التأثير أو النتائج أحياناً، ما تعليقك؟
- حوارنا هنا عن محمد العلي، ولذلك سأوضح هنا أنه كمثقف موسوعي وكمهتم بالنقد الأدبي اطلع على مترجمات الكثير من المدارس والمناهج النقدية الأدبية، حتى وإن اشتكى من عدم امتلاكه لغة أجنبية أخرى تعينه على ذلك. وبحكم تخصصه وولعه باللغة العربية، فقد يبدو في بعض قراءاته ألسنياً يفيد من المنهج البنيوي. وبحكم خلفيته الفكرية والفلسفية، قد يبدو واقعياً في قراءات أخرى، أو تقويضياً أو حتى رومانسياً في غيرها! غير أنه في كل ذلك يصدر عن قناعة ترى أن النظرية ليست أكثر من أداة تُعين على مقاربة النص الإبداعي، وليست أصناماً يتم تقديسها من خلال التطبيق، وهو غالباً ما يقول عن منهجه إنه «انطباعي»! وانطباعيته بهذا المعنى تبقى أفقاً مفتوحاً للإفادة من كل المناهج والأفكار في مقاربة النصوص الإبداعية، كأدوات تسهم في مقدرة الناقد على تجلية الرؤى الدلالية والتشكيلية التي ينهض عليها النص الإبداعي.
وبهذه الخلفية، يأخذ الجدل الفكري علاقته بالعملية النقدية، فتجد العلي منجذباً في قراءته صوب الرؤية في النص المرتبطة ببنية اجتماعية وثقافية وفكرية كبرى غير منغلقة على القول وحسب، مثلما تشدّه قدرة المبدع على ما يفتحه النص من نوافذ جمالية وتعبيرية لافتة، سواءً في متنه أم في هوامشه أم ما يفتح أبوابه عليها من رؤيا تجاوزية خلاقة. ويمكن للقارئ أن يتعرف على ما أشرت إليه هنا في محاضرتين للعلي، هما: «حول الغموض في الشعر»، و«مفهوم الوطن»، وفي ما كتبه عن بعض قصائد محمود درويش، أو في لفتاته النقدية الجميلة عبر كتاباته للصحف اليومية.
تحدثت عن عدم اهتمام العلي بالصورة البصرية للنص، وقلت إنه يكتب نصه وكأنه يخاطب مستمعاً وليس قارئاً، أليس هذا مأخذاً يبعده قليلاً عن الحداثة الشعرية، التي اقترحت ممكنات بصرية للقصيدة، بل إن هذه الممكنات هي أحد الملامح الأساسية لحداثة هذه القصيدة؟
- نشأ العلي في حواضن اجتماعية وثقافية مهتمة بالأدب والشعر، من الأحساء إلى النجف بالعراق، لهذا كان الشاعر يثق بمواهب قرائه القادرين على قراءة النص بشكل لغوي سليم. وأحسب أن تأثير تلك الحواضن الثقافية ظلّ لصيقاً بتجربة العلي الشعرية الجماهيرية، سواءً في بنية الخطاب أم في الصواتة العالية، خصوصاً في مرحلتيه الأولى والمتوسطة، وذلك ما أورثه عدم الاكتراث بفارق الأزمنة، فلم يهتم كثيراً بتوزيع جمله الشعرية على الصفحة، أو بتشكيله حتى اليوم.
أما إشارتك إلى أن البعد البصري للنص الشعري يعد أحد الملامح الأساسية لحداثة القصيدة العربية، فإنني أخالفك الرأي، إذ أعدّه بعداً شكلانياً محضاً، نما في أحضان مرحلة أواخر الحداثة الشعرية، ونما لاحقاً في مرحلة آفاق ما بعد الحداثة.
قلت إن غنى تجربته وفرادتها معرفياً وجمالياً وممارسة حياته تجعل منها عصية على التمثل أو الاستئناس من أي شاعر آخر، لكن هناك، كما تعرف، شعراء لهم الصفات ذاتها، ومع ذلك نجح شعراء آخرون في تمثلهم والاقتداء بهم، ماذا تقول؟
- بدر شاكر السياب رائد شعرنا الحديث والجديد، فتح باباً للقصيدة العربية من خلال ابتكار قصيدة التفعيلة «مع نازك الملائكة»، ولكنه وظّف الأسطورة أو أفاد من بعدها الأسطوري بشكل منح القصيدة العربية جدتها وحداثتها، وتبعه عشرات الشعراء، وأبدع بعضهم بشكل مختلف مثلما فعل حسب الشيخ جعفر، ولكن بقيت تجربة السياب ذات خصوصية متفردة! أدونيس هو أكثر الشعراء الرواد الذين بشّروا نقدياً بقصيدة النثر وأبدعوا في حقلها، ومهدوا لها الفضاء لتنتشر «أكثر حتى من أنسي الحاج»، ووجدنا الدروب معبّدة الآن لشعراء قصيدة النثر بفضله، ولكن لا أحد منهم يستطيع أن يقلّد أو يفيد من قصيدة أدونيس، نظراً إلى عمقها المعرفي! وكذلك الأمر بالنسبة إلى محمود درويش، خصوصاً في دواوينه الأربعة الأخيرة.
محمد العلي كتب قصيدة التفعيلة بعد أن أعجب بتجربة السياب، ولكنه لم يوظف الأسطورة في شعره، ولم يفتح باباً جديداً، ومع ذلك أقول بيقين مطمئن، إن تجربة العلي الشعرية - في رأيي - تتمايز عن تجربة كل هذه القامات الشعرية الضخمة، لأسباب ثقافية ومعرفية عدة، ولكن أهمها يرتكز على ما يتمتع به من حساسية لغوية عالية شديدة الرهافة والعذوبة والأناقة، ومن حيث ما ينطوي عليه من مهارات التكثيف والاقتصاد في المبنى، وفي الإلماح المقتضب إلى المعنى، والقابل للانفتاح على مستويات دلالية شاسعة. لذلك يمكن لنا الدخول من الأبواب التي فتحها الشعراء، ولكن ليس من السهولة الإفادة من مهارات لغوية وأسلوبية شديدة الخصوصية كتلك التي يمتلكها العلي.
ما الذي دفعك إلى القول إن العلي لن يستطيع تجاوز تكوينه الفكري والشعري، صوب الإخلاص لاشتراطات كتابة قصيدة النثر المعاصرة؟
- القصيدة العمودية - عندي - هي شعر مضارب القبيلة وأحلام الجماعة حتى وإن تجمّعوا في ما يشبه المدن، وشعر التفعيلة في زمننا العربي هو شعر الجماهير الباحثة/ أو الذاهبة إلى المدينة، أما قصيدة النثر فإنها شعر الفردانية وقد استوحشت من تلك المدينة! وعلى رغم أن العلي أبدع في كتابة عدد من قصائد النثر خصوصاً في رحلته الأخيرة إلى بيروت، إلا أنني أميل - جازماً - إلى أنه لن يجعلها خياره الوحيد للتعبير عن حالاته الشعرية، حتى وإن تمددت الوحشة في شرايين البيت والشارع، نظراً إلى ما للزمن الثقافي من تأثير في حساسية الكتابة والنظر والتأمل، ولأسباب أخرى ذكرتها في كتابي.
ألمحت إلى أن رؤية العلي للحداثة لم تكن معمقة، أو أن القارئ في حاجة منه إلى قراءة معمقة لرؤيته للحداثة، أو كأن مشروعه الثقافي لا يزال ناقصاً من دون هذه القراءة لرؤيته للحداثة، ما تعليقك؟
- الشاعر الحداثي لا بد أن يكون حداثياً في ثقافته وفكره ورؤيته وموقفه، وفي مسيرته الحياتية اليومية في مجتمعه. والعلي عندي كذلك. وأنا لم أركّز في كتابي على الحداثة الشعرية عند العلي وحسب، وإنما عملت على رصد إشاراتها الضمنية أو تجلياتها الكلية في جلّ ما كتبه، إبداعاً وفكراً ونقداً أدبياً. وأفضت في الحديث عن كونه كاتباً حداثياً بامتياز من خلال ما تطرحه منجزاته من نهج رؤية نقدية تساؤلية وشكّاكة، تعمد إلى ترسيخ آليات البحث والتغيير، وإعادة البناء، أو تشكيله من جديد.
وأسهب الكتاب في تحليل الأسباب التي نأت بالعلي عن استخدام مصطلح الحداثة في مرحلة طويلة من مراحل كتاباته الثقافية، كما توقفت بتفصيل في فصل «حداثة العلي» أمام ما أورده من مرتكزات تأسيسية لمفهوم الحداثة في الشعر العربي. ولكنني أشرت إلى أنه لم يعنون أياً من محاضراته أو دراساته بهذا العنوان! لذلك، ليس الأمر صحيحاً كما ذكرت، بأن رؤية العلي للحداثة لم تكن معمّقة، لأن التعبير الحقيقي عن تلك المسألة هو القول بأنه كان حذراً لمدة طويلة من استخدام مصطلح «الحداثة» لأسباب جرى التعرّض إليها في الكتاب. ولعل اللبس في التساؤل يأتي من كوني ذكرت أنني أتمنى منه أن يكتب دراسة خاصة تحدد مفهومه للحداثة، ليس في الأدب والشعر وحسب، وإنما في مختلف مناحي انشغالاته الفكرية والثقافية، التي أخلص لها طوال حياته الخصبة والمديدة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.