هل يشعر بعضنا بالضغط الكبير من متابعة الناس له في حالات هدوئه أو انشغاله، أو في الوقت الذي يخصصه للراحة أو لعائلته، أو لأصدقائه المقربين، أو حتى للخلوة مع نفسه وعمل ما يريد دون إزعاج من وسائل التقنية والاتصالات، التي تقطع عليه انسجامه، أو تشتت أفكاره؟ كان جهاز الهاتف في يوم ما واحداً في المنزل؛ يرد عليه من يكون قادراً على الرد، أو قريباً من الجهاز، ثم تعددت الأرقام والأجهزة، وأصبحت أحياناً مزعجة، ولبعضها وظيفة محصورة بالعمل أو الاتصالات الخاصة. ثم أتت الهواتف اليدوية، التي لم تعد خاصة بالمنزل أو المكتب، بل بالشخص نفسه، مما يعني أن لا أحد بقي قادراً على التملص من الرد على ذلك الجهاز الذي يلاحقه أينما كان. وأصبحت الوسيلة الوحيدة للحد من الملاحقة أن يطفئه، أو يتركه على الوضع الصامت. ثم توالت البرامج الملحقة بالأجهزة الذكية، التي جعلت الحساسية من ضيق مساحة الخصوصية تكبر، إذ أصبحت الرسائل بشتى أنواعها الصوتي والكتابي تصل إلى تلك الأجهزة، كما أن الأطراف الأخرى يتضح فيها، إن كان الشخص قد فتح جهازه، أو اطلع على تلك الرسالة، مما يجعل أصحاب الخصوصية في رعب من ملاحقة المتطفلين. وفي ابتكارات متوالية بدأت الشركات في التضييق على الإنسان المعاصر بخدمات تقنية، أحياناً تكون ضرورية وعصرية، لكنها تقلل من مساحة حرية الإنسان، وتمنعه من التمتع ببعض الخصوصية. منها ما هو في أجهزة محمولة أو في تسجيل في دوائر الكترونية، وأخيراً ما يتعلق بالأجهزة الملبوسة. وآخرها كان السوار أو الساعة الذكية المرتبطة بأجهزة الاتصال، والتي تجعل المرء ينظر إلى يده من أجل الرد، أو معرفة ما يرده من تواصل، بدلاً من كون تلك الحركة سابقاً خاصة بمعرفة الوقت. وفي مقالة طريفة نشرت في النيويورك تايمز عن علاقة صحفي بساعته الذكية من أبل، التي ظهرت أولى نماذجها في أبريل من هذا العام؛ يشير الكاتب إلى أنه قد قطع علاقته بتلك الساعة، وأزعجته تلك الملاحقة حيثما حلّ، وفي أي مكان ربما لا يجدر فيه وجود أجهزة اتصال بالخارج. وهو كان قد اندفع لشرائها بسبب التحفيز الجماهيري، الذي أصبحت تمارسه شركات التقنية باقتدار؛ بأن تضع مواعيد محددة لكل منتج، وتسرب بعض الأخبار الضبابية عن سماته، وبعض نواحي الجدة فيه من الشكل والألوان والمميزات المختلفة عن الأجيال السابقة. ثم تدفع بعض الناس للتسابق على الحصول عليه قبل غيرهم، بإغراءات بسيطة لأول عدد من الأجهزة، أو لوجود تطبيقات مجانية في الدفعات الأولى، إلى غير ذلك من وسائل هي نفسها تسويق لتلك المنتجات الثانوية. ومع انتشار الثقافة الاستهلاكية في العالم المعاصر، أصبحت صرعات التقليد هي المهيمنة على سلوك الناس، وفي ترتيب أولوياتهم. فلماذا اشتراها هذا الصحفي ثم تخلى عنها؟ هل أحس بأنه مخدوع، أو أنها لا تتناسب مع سلوكه العام في مواقع العمل والحياة الخاصة؟ في الواقع أنه كان يلخص تجربته بسخرية شديدة، من أنه يحس بالبلاهة، وهو يركز على موضع تلك الساعة في يده، وأنها تبعده عن التفكير في كل ما يشتغل به في مواقع العمل، أو ما يستمتع به في أماكن الترفيه وقضاء وقت النقاهة. ولذلك قرر أن يستغني عنها، ويعود إلى حصر تواصله بأجهزة يمكن فصلها عن الجسد، وأخذها عندما يريد المرء أن يبقى على تواصل مع الآخرين؛ فالحفاظ على بعض الخصوصية عند عدد من الناس يفوق أهمية أن يكونوا في ركب التقنية! *أستاذ اللسانيات بجامعة الملك سعود