تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وجنِّبني النصيحة َ في الجماعه فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه تستوقفني دائماً حكمة الإمام الشافعي -رحمه الله- المتمثلة في قصائد شعرية موجزة تختصر الكثير من الكلام ببلاغة نادرة، وفي بيت القصيد اليوم قاعدة مهمة من قواعد التعامل الإنساني ينبغي أن تكون ديدن كلٍّ منا، وليس في مجال تربية الأبناء فحسب كما يعتقد البعض. لم يغب عن ذهني موقفٌ مضت عليه السنوات الطوال، غير أن قسوة ردَّة الفعل التي شهدتها أنا وجمعٌ غفير معي في إحدى المدارس كانت كفيلة بأن تبقى للحدث بصمة لا تُنسى، ولو لم يكن أسلوب الناصحة «المعلمة» فيه شيءٌ من التعالي واحتقار الآخرين، لما اضطرت تلك الطالبة الوديعة التي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها أن تُجيبها بكل ذلك العنف، غير مُبالية ببقية مَنْ حضروا الموقف -كائناً مَنْ كانوا- واتخذت حيالها موقفاً مُضاداً دون أن تلتفت للمعنى الطيب الذي تتضمنه النصيحة ويُراد بها الخير لدنياها وأُخراها. أدركت حينها -رغم صغر سِنِّي- أننا وحدنا مَنْ نُحدِّد ردود أفعال الآخرين نحونا عندما لا نُراعي نفسياتهم عند إسداء النصيحة، وعندما لا نتخيَّر الزمان والمكان المناسبين لإسدائها، و قد لا ننتقي الكلمات والأسلوب اللذين يليقان بمَنْ تُوجَّه له النصيحة، وفي مقولةٍ لابن رجب: «كان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرَّاً، وقال بعضهم: مَنْ وَعَظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومَنْ وَعَظهُ على رؤوس الناس فإنما وبَّخه». وقد قال أمير الشعراء في ذلك: آفة النُّصح أنْ يكونَ لِجَاجَاً وأذَى النُّصْحِ أنْ يكُونَ جَهَارَا كما قال الفضيل -رحمه الله-: «المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعَيِّر»، وقال ابن حزم: «إذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، أو بتعريضٍ لا بتصريح، إلا لمن لا يفهم، فلابد من التصريح». وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستعمل الأساليب اللفظية في التوجيه غير المباشر في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله» رواه مسلم. ولما بلغه عن أناس أنهم يواصلون الصيام قال: «ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي» رواه مسلم. وفي حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادته فكأنهم تقالُّوها، فألزموا أنفسهم بالسهر والرهبنة والصوم، فلما بلغه أمرهم قال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني» رواه مسلم. ولقد كان هذا النوع من الكلام معروفًا عند العرب، كما في المثل السائر: «إياك أعني واسمعي يا جارة»، وهو مثل يُضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا غيره تعريضاً لا تصريحاً. وخلاصة القول إن أصل النصيحة في اللغة الخلوص، يُقال: نصح الشيء خَلَصْ والنَّاصح الخالص من العسل وغيره، واصطلاحاً كلمة جامعة تدل على الدعوة إلى ما فيه صلاح والنهي عما فيه فساد، والله تعالى يقول في كتابه الكريم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة النحل -125 وفي حديث تميم الداري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم في صحيحه. قبل الوداع: سألتني: هل تقبلين النُّصْح؟ فقلت: ومَنْ أنا حتى لا أقبله، وقد قبله قبلي مَنْ هم خيرٌ منِّي وأكثر علماً وفضلاً، وللنَّاصح مني كل إجلالٍ وتقدير فما نصيحته إلا دليل مودة وحرص واهتمام، وكما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «رَحِمَ الله امرأ أهدى إليَّ عُيُوبي». وفي بيت جميل لعبدالله السَّابوري: مَنْ كَانَ ذَا نَصِيحَةٍ نَهَاكَا وَمَنْ يَكُنْ ذَا بُغْضَةٍ أغْرَاكَا رئيسة قسم الإعلام الاجتماعي النسائي بالمنطقة الشرقية