بعد عام على إنشاء نادي القراءة ينتفخ رئيسه الشاب، يتضخم، ويتوهم أنه صار بالفعل رمزاً ثقافياً جديراً بالاقتداء. ويقرر حينها إلقاء محاضرة على زملائه وزميلاته حول خبراته القرائية التي لم تتجاوز كتباً بعدد أصابع اليد الواحدة. ثم يستمرئ اللعبة فيكف عن القراءة مكتفياً بإسداء النصائح لأصحابه، وإعطاء الأوامر، والحضور الاستعراضي في مهرجانات وملتقيات القراءة المتكاثرة. ليؤكد بكل ممارساته تلك أن القراءة لم تغير في شخصيته أي شيء، ولم تهبه من المعرفة أو الأحاسيس ما يغريه بالتواضع وطلب المزيد من العلم. وكأنه قد تعاطى الفعل القرائي بطريقة خاطئة. أدت في النهاية إلى إنتاج ذات متشاوفة ومغرورة. لم يعد تأسيس جماعة شابة للقراءة بالمهمة الصعبة. إذ لا يتطلب الأمر سوى رسالة الكترونية لمجموعة من الشباب. ودعوة للحضور إلى مقهى وتناول المرطبات وتداول تشكيل فريق يهتم بالكتاب. وبالنظر إلى قدرة الشباب اليوم على التعامل مع مكتسبات اللحظة التواصلية والتقنية والمعلوماتية، سيتبرع أحدهم بتصميم شعار الجماعة، فيما سيتكفل آخر بإنشاء حساب في تويتر وانستغرام وفيس بوك. ويتحمس ثالث لتصوير الاجتماعات وبثها عبر مواقع التواصل الإلكتروني بشيء من الإثارة والبهرجة وهكذا. لتتوالى الاقتراحات فيما بعد حول طبيعة الاجتماعات الدورية، والكتب المقترحة، والرموز الثقافية التي سيتم استضافتها لزوم التفاعل وتصعيد الفعل القرائي. هذا هو ما يفسر كثرة الأندية القرائية الشبابية، والتكثُّر الزائد للجماعات المهتمة بالقراءة، لدرجة يصعب إحصاؤها. حيث يمكن التقاط أعراض هذه الظاهرة التي تحمل من الإيجابية ما يعادلها من السلبيات بشكل واضح في المقاهي، من خلال التجمعات الشبابية. وعلى شكل رسائل متواترة في مواقع التواصل الاجتماعي. وبصورة إعلانات ودعوات فائضة عن جلسات قرائية ومناسبات ثقافية. الأمر الذي يثير البهجة من ناحية بسبب تلك الاندفاعة الجماعية نحو القراءة. كما يبعث الأمر على التساؤل عن جدية ورصانة ومغزى تلك المتوالية من الأندية التي تبدو إعلاناتها أكبر بكثير من إنجازها الفعلي على أرض الواقع. لا ينبغي التعامل مع مفاعيل هذه الظاهرة اللافتة بنظرة تشكيكية معتمة، بل بتفاؤل لأنها تأتي ضمن محاولات الشباب للبحث عن هوياتهم وتمثّل أدوارهم وبناء ذواتهم. وفي الوقت ذاته ينبغي موضعة هذه الموجة من التثاقف داخل سياقاتها الحياتية الاجتماعية المعرفية. إذ لا بد لكل ممارسة من مخرجات. ومخرجات القراءة بطبيعتها تتشكل في جيل على درجة من الوعي والتماس مع القيم. وهي تأتي كامتداد لأندية القراءة المتوفرة اليوم في الجامعات، وكاستكمال للمظاهر المهرجانية في معارض الكتاب. إذ يلاحظ حرص الشباب على شد الرحال للمعارض وتصوير حصيلتهم من الكتب. وإذا كانت بعض الأندية مصابة بداء الاستعراض والشكلانية، كما يلاحظ ذلك من خلال تسيير الرحلات إلى معارض الكتب، وتصوير أغلفتها تحت عنوان (حصيلتي من المعرض) فإن بعضها تمارس الفعل القرائي بشكل جاد. والأهم أن بعض الشباب على درجة من الإخلاص لمفهوم القراءة. إذ لم تتمكن التيارات الدينية من استقطابها والتحكم في طبيعة الكتب والموضوعات التي يفترض قراءتها. كما أن بعض الجماعات فضلت ممارسة القراءة ضمن أجواء صداقاتهم الحميمة، مكتفين بلقاءاتهم المصغرة المحدودة، ولم ينجرفوا باتجاه عروض وبيروقراطية المؤسسة الثقافية. وهذه ممارسات تنم عن وعي بمعنى وأهمية القراءة في أجواء حرة. أندية القراءة الكثيرة ليست بالضرورة ملاذاً للشباب الاستعراضيين، الذين يلتقطون الصور التذكارية مع الكتاب بجانب أكواب القهوة. فهناك من الشباب من اتخذ القراءة على محمل الجد. وهو أداء يمكن قياسه في تعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع المعنية بالقراءة كموقع قود ريد - مثلاً - التي صارت اليوم تؤسس بالفعل إلى نمط قرائي جديد، يضغط على الناشر والكاتب باتجاهات غير مسبوقة. وهذا جزء صغير من ظاهرة كبرى على درجة من التعقيد. وأتصور أن أي دراسة كمية تحليلية لظاهرة أندية القراءة الشبابية ستحمل من المفاجآت والمقترحات ما يمكن أن يثري الفعل القرائي. إن ظاهرة أندية القراءة الشبابية ليست معزولة عن محيطها. ولا عن لحظتها. ولا يمكن فهم أبعادها من خلال تمظهراتها الخارجية، إنما بالتماس معها في العمق. وتحليل سياقاتها. وهي مهمة تستدعي ما هو أهم وأكبر من استقطاب الشباب وترويضهم تحت مظلة تيار أو مؤسسة ثقافية. بل بإجراء حوار خلاق مع شروط بروزها، والمطامح التي تختزنها، ومدى ارتباطها باللحظة الديمقراطية العالمية. وكل ذلك ضمن ما بات يُعرف بالثقافة الشبابية التي صارت أمراً واقعاً بفعل الوجود الشبابي الصريح والضاغط في مختلف مناشط الحياة. * ناقد