ما أكثر أندية القراءة الشبابية اليوم. وهي جماعات تراوح ما بين الرؤية التأسيسية الحقيقية لفعل القراءة والوجود الشكلي الاستعراضي. يساعد على ذلك ما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي من فرص واسعة سواء للتفاعل والتماس مع مكتسبات الثقافة الإنسانية، أو إساءة استخدام تلك الوسائل التقنية، فائقة الحداثة، في تخليق صورة زائفة عن أهداف ونشاطات وإمكانيات النادي القرائي. وكل ذلك يأتي ضمن ما بات يُصطلح عليه بالثقافة الشبابية. التي تتجاوز طرائق الملبس الغرائبي والأكل المستعجل والسلوك الاجتماعي، إلى مضمون الثقافة ذاتها من خلال المقروء والمسموع. كما تأتي كل تلك الموجة من التجمعات المعنية بفعل القراءة ضمن سياق ثقافة التطوع. حيث يبحث الشباب عما يعزز حضورهم ويؤكد هوياتهم. وبالتالي تبدو الأندية القرائية في بداياتها بعيدة عما تخطط له المؤسسة الثقافية. ربما لأنها لا تمتلك كرصيد واقعي ما يقنع المؤسسات الثقافية الرسمية بدعمها مادياً أو استمالتها. في الوقت الذي تقوم فيه مؤسسات كبرى في الخليج العربي بتأسيس مشروعات تستهدف الشباب في موضوع القراءة وتنمية الذات. وتهيئة بيئة ووسائل القراءة ضمن منظور استراتيجي للتنمية الوطنية. كما يمكن ملاحظة ذلك في برنامج (أقرأ iRead) الذي تتبناه أرامكو السعودية. ومشروع (أبو ظبي تقرأ) بإشراف مجلس أبو ظبي للتعليم. وغيرها من البرامج التي تنمي مهارات القراءة، وترصد الجوائز، من أجل إعداد جيل قارئ، وابتكار أفضل الوسائل لتشجيع القراءة. مقابل ذلك الجهد المؤسساتي الكبير، الذي تنظمه وتشرف عليه المؤسسة من ألفه إلى يائه، تستمر الأندية الشبابية الصغيرة في العمل ضمن المتاح من الإمكانيات وهامش الحركة المسموح بها، إلى أن تتمكن من إقناع مؤسسة كبرى بجدية وجدوى ما تعد به. حيث استطاع (مشروع حروف الثقافي) تأكيد حضوره وإقناع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، أن بإمكان مجموعة من الشباب تنظيم ملتقى استثنائي للقراءة إذا ما توافر له الدعم المادي والمعنوي. وهذا هو ما حدث بالفعل. حيث تمت إقامة المؤتمر الوطني الأول للقراءة الأسبوع الماضي (وألق بصرك) 19-20 أبريل. وذلك بإدارة وتخطيط نادي حروف باعتباره المشروع المبادر، وبمشاركة من تسعة أندية كويتية وخليجية هي: نادي إبداع، وملتقى الثلاثاء، والجليس، وندوة الثقاقة والعلوم، ونادي القراءة، وكلنا نقرأ، ومشروع تكوين للكتابة الإبداعية، وسواعد، وملتقى ضفاف، وأصدقاء القراءة. لم يقتصر برنامج المؤتمر على فكرة التشجيع على القراءة، بل جاءت الطروحات والطموحات متقدمة وفاتحة لآفاق ثقافية أرحب. وهو الأمر الذي يفسر وجود فصيل من المثقفين والفنانين اللافتين في جدول الفعاليات. حيث اشتمل البرنامج على ورش عمل ومحاور عميقة وبعيدة في مراميها. حول مفهوم القراءة وبيان هوية القارئ ودوره في المجتمع. والتأويل وإشكالية فهم النصوص الأدبية والفكرية، ووسائل تشكيل الفرد القارئ، وحركة الترجمة، ودور السينما الثقافي، والقراءة النوعية والتأصيل المعرفي، وتهميش وسائل الإعلام للثقافة، والرقابة والتأويل. وهي محاور مشغولة بذهنية جادة واحترافية في التفكير القائم على تجذير الوعي الثقافي انطلاقاً من فعل القراءة. إن هذه المحاور المتعالية معرفياً وفنياً تكشف عن كفاءة الذوات التي أنتجتها. أي عن تلك المجموعة من الشباب الواعد المتمثلة في عائلة حروف: رزان المرشد، صالح القطيفي، فرح المنصور، عبدالعزيز العوضي، دانة الحداري، خالد الشايع، ندى الدعيج، سعيدالجلندي، عبدالرحمن المنيع، وفجر بن ناجي. وهو طموح حواري لم يكن قابلاً للتحقُّق إلا بوجود أسماء لها خبرتها الإبداعية كأيمن بكر وصالح علماني ويوسف زيدان ومحمد العوضي والزواوي بغورة وغسان عبدالله وغيرهم من الكفاءات الثقافية والفنية. هذا بالإضافة إلى حضور الفنان مرسيل خليفة، وتتويجه للملتقى بحفلة فنية (تصبحون على وطن). الأمر الذي أضفى على المؤتمر مسحة من البهجة والتفاؤل. ومن المبهج أن وجود تلك الكوكبة من النخب إلى جانب قاعدة عريضة من الشباب أعطى للملتقى صفة تفاعلية نادرة ومحبّبة. حيث تولدت حالة من التفاعل القائم على التجايل. إذ لم يحضر الشباب كمريدين بل كمحاورين وراغبين في التماس الخلاق مع النخب الثقافية. وبكثير من التواضع والاحترام الأبوي تولّدت النقاشات الجادة سواء على المنبر أو ما يحفّ به عقب انتهاء الجلسات. وهذا هو الاستثناء الأجمل في مؤتمر القراءة الأول. خلافاً لمعظم الملتقيات التي يدبرها الكبار ويتداولون آخر السجالات والنظريات المعرفية فيما بينهم. فهنا يحضر القارئ الشاب ليُسائل منتج المعرفة ويحاوره في منهجه وأدواته ورؤاه. فهو مؤتمر تم تصميم برنامجه واستراتيجيته برؤية شبابية صرفة، ولذلك جاء بهذا الصفاء بعيداً عن الإملاءات الأبوية. لم يكن المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب ليغامر بسمعته الثقافية المعروفة، وبميزانية ضخمة في رعاية هذا المؤتمر، لولا ثقته في شباب (حروف) ولولا تلمُّسه لجديتهم وتحمّلهم لعبء الفعل الثقافي الخلاق. وهي ثقة يُشكر عليها الأمين العام للمجلس علي اليوحة، الذي آمن بطاقة هؤلاء الشباب ومنحهم الثقة والدعم لينجزوا هذا المؤتمر المبهج. وليؤكدوا أن الشباب يمكن أن يؤدي فروض مواطنته ومستوجبات هويته ويثبت جديته كقارئ لليوم ومبتكر للمستقبل إذا ما أنصت إلى من يفوقه في الخبرة والتجربة، واعتقد حقاً بأن القراءة هي الحبل السري لاكتشاف الذات وتشييدها. وأن الأندية القرائية الشبابية لن تكون فاعلة ومقنعة ما لم تتقدم خطوة إلى الأمام في أرض الواقع. * ناقد