هُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أتيته فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ تَعوّد بَسْط الكفِّ حتَّى لو انَّهُ ثناها لِقَبْضٍ لم تُطِعْهُ أَناملُهْ تراه إذا ما جئتَه مُتهلِّلاً كأنَّك تُعطيه الذي أنت سَائلُهْ ولو لم يكن في كفِّه غير رُوحهِ لجَادَ بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ مقتطفات من قصيدة «أجَلْ أيُّها الرَّبْعُ الذي خَفَّ آهِلَهْ» للشاعر حبيب بن أوس بن الحارث المعروف ب «أبي تمَّام»، والذي كان طويلا فصيحاً حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، وقيل ان والده كان نصرانياً يسمى (ثادوس) فاستبدله ابنه ب(أوس) بعد اعتناقه الإسلام، ووصل نسبه بقبيلة طيء، ولأنه كان أجشُّ الصوت فقد اعتاد أن يصطحب راوية له حَسَن الصوت ليُنشد شعره بين يدي الخلفاء والأمراء. والعطاء الذي يتحدث عنه أبو تمام ساحلٌ لا بحر له، ولعله أول قيمة جوهرية تبادرت إلى ذهني وأنا استمع إلى قصة «هيفاء» تلك السيدة الحنون التي منحت شبابها وصحتها بحُب لرعاية نزيلات مركز التأهيل الشامل بالأحساء، وأسعدت «نجاة» بلقب «ابنتي» فاهتمت بها ورعتها بصفة خاصة إلى جانب أخواتها لسنواتٍ طوال، وحين خارت قواها، وأصيبت بجلطةٍ أقعدتها جزاها الله بالإحسان إحسانا، وهو القائل جلَّ وعلا: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) سورة الرحمن -60. فكانت «نجاة» ذات الإعاقة العقلية خير مُعينٍ لها، تنتظر قدومها وتحمل عنها حاجياتها، وتدفع لها مقعدها المتحرك ب «حُب»، ولم يدفعها لذلك سوى الحب، والحب فقط، وكم تُثلج صدرك وهي تقول: «أمي هيفاء»، فلا تملك إيقاف انحدار دمعاتك فرحا بحُسن العاقبة، ومن فئة يعتقد بعض من يرعاهم أو يخدمهم أن ما يفعله معهم يروح أدراج الرياح، وينسى أنَّ ما عند الله خيرٌ وأبقى. وقد ورد عن الشيخ علي الطنطاوي يرحمه الله- الذي نتذكره على مائدة رمضان- أنه قال: (إذا شئتم أن تذوقوا أجمل لذائذ الدنيا، وأحلى أفراح القلوب، فجُودوا بالحُب كما تجودون بالمال)، وفي المثل الصيني: (مثلما يعود النهرُ إلى البحر هكذا يعودُ عطاء الإنسان إليه). وفي ذلك يقول الشاعر عطا سليمان رموني: خَيرُ الأيادِي مَنْ سَخَتْ في بَذْلِهَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ذاكَ فِعْلٌ سَرَّهُ يا مُؤمِناً كُنْ قُدْوَةً ذَا مِنَّةٍ أنْمُوذَجَاً للجُودِ تُعطى بِرَّهُ حين نعطي مَنْ نُحب كل ما نستطيع فنحن نرسل له رسائل مباشرة حيناً وغير مباشرة حيناً آخر ليعلم أين هي مكانته في قلوبنا، وإلى أي مدى نحن نحبه ونُقدِّره، لذلك فمن المُحال أن يتوقف هذا العطاء، أو ينفد- إن لم يكن متصنَّعاً- مهما طالت بنا الحياة، أو قوبلنا بالإساءة، ومهما ثُرنا أو غضبنا لأي سبب كان، لأن العطاء سِمَة تلتصق بصاحبها فلا يملك منها فِكاكا، وقد قال جبران خليل جبران: (لا قيمة لعطائك إنْ لم يكُنْ جُزءاً من ذاتك). وللمقنع الكندي: لَيسَ العَطَاءُ مِنَ الفُضُولِ سَمَاحَةً حتَّى تَجُودَ وما لَدَيكَ قَلِيلُ وفي كلمة تُنسب للقمان الحكيم: (لتكُنْ كلمتك طيبة، وليكن وجهك بَسْطَاً تكُنْ أحبُّ إلى النَّاسِ ممَّنْ يُعطيهمُ العطاء). قبل الوداع: سألتني: أين يكمن منتهى العطاء؟ فقلت: أن تُعطي ما أنت إليه أحوج، وأنت في الرَّمق الأخير، وانظروا إلى عمق المعنى وروعة العطاء في الصورة التي رسمها عمر أبو ريشة باحترافية شاعر فقال: كَمْ ظَبْيَةٍ بَاتَتْ بِعِبءِ جِرَاحِهَا تَتَوَجَّعُ لمَّا رَأتْ في خَشْفِهَا الجُوعُ المُلِحُّ يُرَوِّعُ زَحَفَتْ لِتُرْضِعَهُ ومَاتَتْ،، وهُو باقٍ يَرضَعُ