بعد الحادثة الارهابية التي هزت قرية الدالوة في محافظة الأحساء، وهزت الوطن بأكمله مطلع نوفمبر 2014، وراح ضحيتها سبعة مواطنين ورجلا أمن، جاءت حادثة ارهابية ثانية لتهز الوطن مرة أخرى، وهي حادثة تفجير مسجد الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التي وقعت في بلدة القديح بالقطيف، والفارق الزمني بين الحادثتين لا يتجاوز سبعة أشهر، وكان الهدف منهما سياسياً بحتاً، متخفياً بقناع طائفي، يحمل معه مخطط الفتنة البغيضة ليبثه في سائر أرجاء البلاد العربية والإسلامية ؛ لتحقيق أهدافه الشريرة التي منها زعزعة الأمن والاستقرار ، وضرب الوحدة الوطنية من جذورها، وإرباك المشهد الوطني المتلاحم، باستخدام سذج سُلبت عقولهم، اعتقدوا انهم انتصروا لدينهم، وتقربوا إلى الله بتفجير بيته وقتل عباده وهم سجد ركع. بعد الحادثتين مباشرة قمنا بإدانة الفاعل دون أن نعرف هويته، وترحمنا على الشهداء، وتعاطفنا مع المصابين دون أن نبحث عن هويتهم؛ لأن العنصريين والطائفيين وحدهم هم من يبحثون عن هوية المصاب والقتيل ليحددوا موقفهم من دمائهم. وبهذا حددنا موقفنا من القتل والدمار والارهاب مهما كان الفاعل، وهكذا ينبغي أن نكون دائماً كأبناء وطن واحد. بعد الحادثتين الارهابيتين علمنا أنهما كانتا من بين عشرات العمليات التي تم وأدها قبل وقوعها من قبل رجال الأمن الأشاوس في المملكة؛ وهذا يعد مكسباً كبيراً لنا، يجعلنا نفخر بمنجزات "العيون الساهرة" رجال الامن في بلادنا، ونفخر بحضورهم المشرف، ونفخر بما أنجزوه من نتائج في كلتا الحادثتين. فهم أعمدة السكينة والاستقرار، والواجهة الأولى التي تواجه الموت بعزيمة وشجاعة، وتقدم الروح في سبيل استتباب الأمن وحفظ الوطن وسلامة المواطنين والمقيمين. المتابع لما يجري حولنا قبل الحادثتين وبعدهما يدرك أن المنطقة برمتها تُقاد الى حرب طائفية مفتوحة، ببرامج شيطانية يائسة، تحاك من أجل استفزاز السنة والشيعة في المنطقة، وتهدف الى بث روح الفرقة والانقسام على أساس طائفي بينهما. لكن هيهات أن ينجحوا في الوصول الى هذا الهدف الشرير في بلادنا ؛ لأن المسلم السني والمسلم الشيعي في بلادنا يتألم أيما تألم إذا أصاب جاره أي مكروه سواء في حادث سيارة أو حريق أو أي حادث آخر ، فما بالك بالألم الذي يعتصرهما إذا ما تم تفجير مسجد مكتظ بالركع السجود من أي من الطائفتين ؟! قبل الحادثتين كان أهل المنطقة الشرقية "سنة وشيعة" يعيشون في وئام وتعايش وسلام، وتجلى هذا الوئام بعد حادثة الدالوة التي خرج بعدها جميع أهالي الاحساء سنة وشيعة مترابطين ومتمسكين بثوابتهم الوطنية ووحدة مجتمعهم. وكذلك الأمر في حادثة القديح بالقطيف التي هرع فيها أبناء المنطقة الشرقية "سنة وشيعة" للتبرع بالدم، وزأرت القصيم بإعلان أميرها الاستنفار والاسراع في التبرع بالدم لإخواننا في القطيف، وكان هذا هو موقف سائر مناطق المملكة وشعبها الذي أطلق عبر وسائل التواصل الاجتماعي ( الهاشتاق ) السعودي تحت مسمى "يد واحدة لمواجهة الفتنة" ، وكهذا نحن دائماً أكثر حصانة، وأكثر تمسكاً بثوابتنا الوطنية ووحدتنا الاجتماعية. بعد الحادثتين استمعنا الى أصوات العقلاء من المراجع الشيعية والسنية والرموز الثقافية والاجتماعية في سائر أنحاء المملكة وخارجها. واستمعنا الى تصريحات هيئة كبار العلماء التي أكدت على تجريم استهداف بيوت الله والمواطنين الابرياء، ولإيماننا الراسخ بقضاء الله وقدره نستحضر دائماً قوله تعالى: " وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" البقرة (216). لو عدنا بالزمن الى الوراء قبل الحادثتين، وقبل ما يسمى "الربيع العربي" لوجدنا ان الناس لا يكرهون أو يحبون بناء على الهوية والطائفة، ولم يكن يعنيهم كثيراً مذهب من يتعاملون معه. أما اليوم فالقتل صار على الهوية والطائفة، وأصبح حديث الناس اليومي عن الكلمات الطائفية والمذهبية .. ما الذي جرى ؟ ولماذا جرى؟ الطائفية لن تزول من تلقاء نفسها، بل ستزول بنشر ثقافة التسامح والتعايش ومحاربة خطابات الكراهية في هذه المرحلة الحساسة، وأجدني اليوم متفائلاً بمخاض سينتج عنه - بإذن الله - ولادة إرادة جادة للصلح والتعايش، إرادة تجعلنا أكثر تصميماً على مواجهة الطائفية. وبإذن الله ستنجح هذه الإرادة بالجهود المشتركة بين أبناء "الشيعة والسنة" الذين جمعتهم أشياء كثيرة منها: الدين، وصلة الرحم، والمواطنة، والعيش المشترك، والقومية العربية، والتاريخ الانساني. وكما ذكرت فان بصمات رجال الأمن ممثلة في وزارة الداخلية لمعالجة الشق الأمني في كلتا الحادثتين كانت واضحة ومقدرة ورائعة. لكن ينبغي أن تؤازرها بصمات أخرى تقمع الخطاب العدواني إعلامياً، بل ينبغي إطلاق مشروع وطني لنشر قيم التسامح والتعايش وقبول الآخر بين الطائفتين السنية والشيعية. اللهم احفظ المملكة العربية السعودية من الفتن، واجعلها شامخة باللحمة الوطنية مهما حاول الارهابيون شق الصف، ووطننا صامد ولن يتراجع ولن يخسر ولن ينكسر أمام الطائفية البغيضة.