ديوان (جوامع الكَمِد) للشاعر عيد الحجيلي هو ديوان يقع في حوالي 112 صفحة من القطع المتوسط, صادر بطبعته الأولى عن (الدار العربية للعلوم ناشرون) ببيروت سنة 2009م. وهذا الديوان هو الإصدار الثاني للشاعر بعد ديوانه الاول الموسوم ب (قامة تتلعثم) الصادر عن (دار شرقيات) بالقاهرة سنة 2004م. ولا أظن أنني مبالغ إذا قلت إن من يقرأ هذا الديوان أو يتصفحه سيلمس لغته الشعرية الراقية, وجدتها وطرافتها وظرفها, وانسيابيتها, مما يعني امتلاك شاعرها موروثا لغويا ودينيا وثقافيا ومعرفيا كبيرا وعريقا. كان الحجيلي حقاً شاعراً ماهراً وبارعاً حين وظف التراث في جميع قصائد ديوانه هذا توظيفاً سليماً وصحيحاً, يجمع بين شرعية اللغة وشعريتها بشكل يندر ان نقرأه لدى غيره من شعراء جيله أو معاصريه. وقد جاء اسم الديوان (جوامع الكمد)- وهو أول ما يقع عليه نظر القارئ من الديوان- دليلا واضحاً وملموساً على استلهام الشاعر للتراث اللغوي العربي والإسلامي. وهو مستوحى من حديث شريف. وقد كان الشاعر موفقاً في اختيار هذا العنوان أو المسمى لديوانه، وذلك لانطباق هذه التسمية على مضمون الديوان ونصوصه، ولمعرفتنا المسبقة بأن العرب (أمة شاعرة) وذات بلاغة وفصاحة وبيان.. ولغتهم العربية لغة إعجاز بياني وبلاغي، ومتميزة تماماً في هذا الجانب عما سواها من اللغات البشرية الأخرى لاتسامها ب (جوامع الكلم).. وقد جاء تصميم الغلاف الخارجي للديوان كذلك متضمناً التعبير عن محتواه، بشكل مبسط, بحيث كانت تقنيات الخط العربي وفنونه وأنواعه هي المادة الرئيسية المكونة له، ليؤكد لنا العلاقة الجذرية القائمة بين الحرف العربي وفنياته، وبين الكلمة الشعرية المعبرة وظلالها، والتي جعلت من الحرف أصلها ومادتها الأولية (الخام). وأستطيع أن أوجز هنا أهم ما تميز به هذا العمل في ثلاثة جوانب رئيسية: 1- اللغة الشرعية: وهي تأثر الشاعر تأثراً واضحاً بلغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة, وتوظيفها في كثير من قصائده، إما بطريقة (الاقتباس) نصاً, أو بطريقة الاستيحاء واستلهام المعنى، وإن اختلف عنه لفظاً. ومن ذلك على سبيل المثال قوله في قصيدة بعنوان (عناقيد): هبَّ في عقر مرآتها الجمرُ واحتد في خلجات العناقيدِ عصف النشيش فدنت وتدلت. (1) وفي قوله هذا استيحاء واضح من القرآن الكريم ومن أمثلة تأثر الشاعر بلغة الحديث النبوي الشريف قوله في قصيدة تحت عنوان (عودة): قال وهو يسندس باب العتابْ يلدغ المؤمن الصَّبُّ من حضْن فاتنةٍ مرتين. 2- الدلالات التحريرية (الشكل الكتابي): والمقصود بها استخدام الشاعر لأشكال أو أنماط متنوعة من التحرير اللغوي وأدواته وفنياته كالأقواس ()، وعلامات الحذف (........) أو تكرار كتابة الحروف وتقطيعها في الكلمة الواحدة.....إلخ، وذلك للدلالة على معنى أو صورة معينة بطريقة الإيحاء أو التلميح أو الإشارة بما يناسب هذه الأدوات والعلامات ويتفق مع مدلولها، مما أكسب لغته الشعرية نوعاً من الإيجاز والتعمية والغموض الشعري الجميل, وهو مما يناسب الشعر كفن تقوم لغته أساساً على الايجاز والرمزية، والمواراة، وعدم المباشرة. ومن ذلك على سبيل المثال قوله في قصيدة (عتمة): توحي إليه كتابَ فتنتها مناسك جمرها آياتها العظمى مُ ن ج مَ ةً. (3). ويلاحظ القارئ هنا مجيء كلمة (منجمة) بحروف متقطعة– كما مر بنا– بشكل متدرج من أعلى إلى أسفل. وفي ذلك استيحاء للمعنى الشرعي ومدلوله لكلمة (تنجيم). ومن ذلك أيضاً استخدامه لبعض الكلمات متقطعة للدلالة على النتيجة الفعلية لها على أرض الواقع، أي تحويل حروف الكلمات المكتوبة إلى ما يشبه حروفاً حركية، مثل تقطيعه لكلمة (الهرب) في قصيدة تحت عنوان (حصار) إذ يقول: بين نَطْع التآريخ آن يمور الدخان ُ وسيف اللقبْ تتوارى التضاريسُ تذوي النبوءةُ تعمى الخطى يتشظىَّ الْ هَ رَ بْ !!. (4) ومن الواضح هنا تعبيره عن (التشظي) بمعنى التبعثر والتشتت, حيث جاءت كلمة (الهرب) متشظية أيضاً في حروفها (ال ه ر ب) لتحيل مدلول الاسم المجرد إلى ما يشبه الفعل الحركي المحسوس. 3- القصيدة القصيرة جداً: والمقصود به اختزال القصيدة إلى حد كبير لتكون قصيرة جداً بطريقة الإيجاز للتعبير بألفاظ قليلة عن معان كثيرة. ومثل هذا ورد كثيراً في الديوان وتمثل في عدة قصائد كان أبرزها قصيدة مختزلة جداً في حجمها وألفاظها، لا تتجاوز ثلاث كلمات بعنوان (محبرة) يقول فيها: الصمت محبرة الكلام. (5) وقصيدة أخرى بعنوان (نداء) يقول فيها: أُمةٌ في حاجةٍ قصوى لأُمة. (6) وثالثة بعنوان (عادة) يقول فيها: كلما أينعتْ رَعْشةٌ في شِفاهك حانَ قطافي. (7) ومع ان التعريف التقليدي للقصيدة العربية العمودية الذي اصطلح عليه الأدباء والنقاد العرب منذ القدم مبني على تصنيف شكلي صرف للقصيدة من حيث عدد أبياتها، فما بلغ سبعة أبيات فما فوق فهو (قصيدة) وما كان بين ثلاثة إلى ستة أبيات فهو (قطعة) وما كان من بيتين فقط فهو (نتفة). أما ما كان من بيت واحد فقط من الشعر فهو (فرد). أما الشعر العربي الحديث (التفعيلي) فقد كسر هذه القاعدة الشكلانية القديمة, بحيث غلب مضمون القصيدة على شكلها، وبغض النظر تماماً عن عدد أبياتها. وهذا ما درج عليه كثير من شعراء (التفعيلة) العرب في شعرهم الحديث في الوقت الراهن، ومن ضمنهم عيد الحجيلي الذي قدم لنا من خلال ديوانه هذا تجربة شعرية جديدة لكتابة القصيدة العربية بطريقة لغوية وفنية واختزالية ومكثفة جداً ومبتكرة غلبت المضمون على الشكل.