علاقة العرب مع إيران، ظلت متوترة باستمرار، وبشكل خاص منذ نجاح الخميني في الوصول إلى السلطة، فقد ارتبط شعار تصدير الثورة بوصول الملالي إلى السلطة، ولم يمض وقت طويل إلا وبدأت محاولات وضع هذا الشعار قيد التنفيذ. كانت البداية عندما عقد مؤتمر في طهران لصناعة تنظيمات إسلامية، على مقاسات طموحات طهران في تفتيت المنطقة، تمهيدا للاستيلاء عليها. بل إن هذه المحاولات بدأت في بعض البلدان العربية، كلبنان والخليج قبل وصول الخميني إلى الحكم. فحزب الدعوة وفقا لأدبياته تأسس في العراق وبعض دول الخليج منذ منتصف السبعينيات، وقائمة الأسماء التي تدخلت في لبنان والخليج كبيرة وبعضها معروف في الأوساط السياسية، بل إن كثيرين من حزب تحرير إيران، ومن ضمنهم أول رئيس لوزراء إيران بعد الثورة، مهدي بازرقان وأول وزير للخارجية كريم سنجابي، يعتبرون موسى الصدر مرشدهم الروحي ومؤسس حركتهم. وفي الخليج كان للعلامة الشيرازي والعلامة المدرسي دور في تأسيس الحركات الموالية لإيران في بعض دول الخليج العربي. استخدم خصوم الشاه، المرتبطين بالخميني لبنان محطة من محطات نشاطهم، وبعضهم أصبح عضوا في المكتب السياسي لحركة أمل، مصطفى شمران، الذي عين بعد الثورة وزيرا للدفاع في إيران. وكان حزب الدعوة اللبناني امتدادا لحزب الدعوة العراقي الذي يعتبر من دعاة الخميني. ولذلك كان من الطبيعي بعد نحاج الثورة، وطرح شعار تصديريها إلى الخارج، أن يجري التركيز على لبنان، لأسباب أشار لها نائب الرئيس السوري السابق، عبدالحليم خدام في كتابه التحالف السوري الإيراني والمنطقة، هي أن لبنان يقع على حدود فلسطين، التي لقضيتها قدسية في الوجدان العربي والإسلامي، وفي لبنان تقاطع جميع أجهزة الأمن العربية والدولية، بالإضافة إلى أنه يشكل حيزا مهما لدى معظم الدول العربية ودول الغرب. لقد سعت القيادة الإيرانية، وفقا لشعار تصدير الثورة، إلى إيجاد مؤسسات ومنظمات، تقوم بدور الوكيل لها، لتحقيق استراتيجياتها. ونجحت في خلق الميليشيات العراقية، كحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والتيار الصدري وعصائب الحق. وفي لبنان حققت إيران نجاحا باهرا، بتأسيس حزب الله والتحالف لاحقا مع حركة أمل، وأصبح وجود حزب الله وأمل أمرا واقعا، له حضوره القوي المنافس في الساحة اللبنانية، وفي مجلس النواب. ولا شك أن ذلك مثل نجاحا قويا لاستراتيجية إيران في الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وإضعاف الدولة المركزية. وتزامن ذلك بتأسيس علاقات إيرانية قوية مع حركة حماس الفلسطينية، رغم أن الأخيرة تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وأكدت إيران بعلاقتها مع حماس، ومع تنظيمات أخرى رديفة لها كجبهة الانقاذ في الجزائر تغليبها للنهج البراجماتي، على حساب عصبيتها المذهبية، متى ما حقق لها ذلك بعضا من أهدافها السياسية. وبالمثل لم تمانع القيادة الدينية الإيرانية، من التحالف مع النظام البعثي العلماني في دمشق، طالما أن ذلك يقربها من صنيعتها في لبنان حزب الله، ومن حوض البحر الأييض. وعززت في العقد الأخير، سياسة الاحتواء والهيمنة، بالتوجه جنوبا نحو اليمن، فبدأت في مد جسور قوية مع الحراك في اليمن الجنوبي، وتحديدا مع على سالم البيض، الرئيس الأخير لليمن الجنوبي، كما استثمرت وجود الحوثيين في صعدة، قريبا من حدود المملكة، فأقامت علاقات قوية معهم، وزودتهم بالعتاد ومختلف أنواع الدعم. والهدف من التوجه نحو الجنوب، هو الهيمنة على مضيق باب المندب بعد ضمان الهيمنة على مضيق هرمز، والاقتراب أكثر من الحدود السعودية، وتهديد أمن دول الخليج العربي. هكذا فرض علينا من دون خيار أن تكون علاقتنا مأزومة باستمرار مع إيران. لقد أدت حقائق الجغرافيا والتاريخ أن نكون على تماس مباشر بما يجري فيها ومن حولها، كما أدت حقائق الجغرافيا والتاريخ أيضا، أن تكون علاقتنا بها في معظم الأحيان، علاقة متوترة رغم التشابك الديني والثقافي، والتلاقح الحضاري. ولسوء الحظ، فإن ثقل التاريخ وحضوره القوي وإسقاطاته، بقيت تحكم سلوك النخبة الحاكمة في إيران، كما تحكم القوى التي تستمد حضورها من مرجعية قم. هذه النظرة من قبلنا لا تنطلق من رؤية شوفينية أو عنصرية، لأن ثقل التاريخ، لم يكن عبئا على مسيرتنا الحضارية، ولا على مواريثنا أو منظوماتنا الثقافية والفكرية، بل كان هذا الثقل أثناء العصر الذهبي للعرب والمسلمين، مع جملة أخرى من العناصر، عامل إثراء للنهضة العربية. لم يكن ذلك هو الحال، بالنسبة لبلاد فارس، فقد كانت تجليات النهضة العربية، وتفاعلاتها، عوامل تذويب وتضعضع للإرث القديم، وللتركة الساسانية. كانت ردة فعل الشعوب الفارسية، عندما اقتحمت جيوش المسلمين بلادهم في معركة القادسية، بقيادة الصحابي الجليل، سعد بن أبي وقاص هي القبول "عنوة" بالإسلام، ورفض العربية، وأسست تلك البداية، لقيام أكبر متراس بشري مانع، حال دون الامتداد الجغرافي للأمة العربية باتجاه الشرق، مع أن الإسلام وصل إلى السند وحدود الصين في ذلك الاتجاه. وتبدو المقاربة أكثر وضوحا، حين نستحضر ما حصل للجيوش العربية الفاتحة، التي اتجهت شمالا حيث وصلت إلى أضنة، قريبا من هضبة الأناضول. وأيضا وبصورة أقوى، ما حدث للجيوش المتجهة غربا، من مصر وعبرها إلى بلاد المغرب. فقد تم تعريب جميع المناطق التي اعتنقت الإسلام، وصولا إلى جبل طارق، بل وصلت تلك الفتوحات إلى الأندلس، التي تعربت أجزاء كبيرة منها، وبقيت كذلك لعدة قرون. وبالمقابل، تعطلت عملية التعريب شرقا عند أبواب فارس. كان التصادم مريرا بين عراقة حضارية ساسانية، وبين الجيوش الفاتحة، لدرجة جعلت عملية الفتح، من أطول الحروب الجهادية التي قام بها العرب أثناء خلافة أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، وأكثرها ضراوة. وقد تركت عقدة التفوق حاجزا نفسيا كبيرا، بين مواريث الإمبراطورية التي غربت، والحضارة التي أشرقت شمسها. وترك ذلك بصماته واضحة في نزوع استعلائي مستمر، وصدامات متتالية، أسهمت في إنهاء الحقبة الأموية، وقيام الخلافة العباسية، وأيضا في صراعات متتالية، أثناء تلك الحقبة، بدءا من أبي مسلم الخراساني، واستمرارا بالبرامكة، إلى مصرع الخليفة الأمين بن هارون الرشيد. لم يكن ذلك الموقف، على أية حال، خروجا على نواميس الكون، فالأمم كما يرى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، حين تواجه بهزائم وتحديات، تستنهض إرثها ومخزونها الحضاري، ويصبح استمرار وجودها، مرتبطا بالشعور بالتحدي، وبنوعية الاستجابة والتحفز المطلوبين لاستمرارية الحضور التاريخي. لن نستغرق بعيدا في التاريخ، ولن نتابع صفحات الصراع الصفوي العثماني، وإسقاطاته على المنطقة. فالأجدى، هو تناول الحاضر، والانطلاق منه أملا في أن يتجاوز الجميع عقد التاريخ، وأن يسلموا بأن تركة التاريخ، ينبغي ألا تكون على حساب استحقاقات الجغرافيا، وأن عدم التدخل في الشؤون الداخلية، هو غاية المطلب شرط أن يكون ذلك هدفا للجميع، لا أن يكون ذريعة للمزيد من التدخلات. وليس من شك في أن تآكل الأطراف له تأثير مباشر على العمق الإستراتيجي للأمة. وإذا اعتبرنا ذلك مسلمة وبديهية، فإيران الآن تسهم بامتياز في تآكل أطراف الأمة، وتعتدي على القلب منها. فهي تحتل أرضا عربية، يعرفها العرب أحيانا بالمحمرة وأحيانا بالأحواز، تضم مدنا عربية عدة، كعبادان والحويزة والأحواز والمحمرة. وهذا اللواء هو بحجم ثلاثة أضعاف فلسطين، وسكانه يتجاوزون ستة ملايين من العرب. كما تحتل جزرا عربية: أبو موسى وطنب الصغرى والكبرى، وتتدخل في كل شاردة وواردة في العراق الشقيق، بعد تسليمه لأنصارها على طبق من ذهب، من قبل الاحتلال الأمريكي، لتسهم عن عمد في تفتيته، وفقا للاستراتيجية الأمريكية، التي كشف القناع عنها مؤخرا، بتصويت الكونجرس الأمريكي على تقسيم العراق، ودعوة الحكومة العراقية للقبول بمشروع التقسيم، الذي يجزئ العراق إلى ثلاث دول: دولة كردية في الشمال وأخرى سنية في الأنبار ودولة شيعية في الجنوب. تروج إيران أيضا لمشاريع التفتيت في المنطقة من خلال إحلال الانتماءات الطائفية، بديلا عن الهويات الوطنية، وتخلق في هذا المضمار، بؤرا للفتنة في اليمن والمغرب والجزائر ومصر ولبنان وسوريا والسودان وتونس ومنطقة الخليج العربي، كما تقوم بصناعة معارضات عربية، على أسس طائفية وإثنية، مهددة أمن الوطن العربي واستقراره، عدا عن تدخلاتها الجلية في بلدان إسلامية أخرى غير عربية، كأفغانستان. في المقابل، لا يحتل العرب سنتيمترا واحدا من الأراضي الإيرانية، ولا يتدخلون في شؤونها، مهددين أمنها واستقرارها. وليس في إيران، معارضة واحدة تحتمي بأي نظام عربي. والجميع في الطرف العربي ينشد الأمن والسلامة. ولا يطلب العرب من إيران، أي شيء سوى أن ترفع أيديها عن التدخل في قضاياهم، وتحترم اختياراتهم السياسية وحقوقهم التاريخية. ورغم أنها مطالب بسيطة جدا، فإنها أمام نزعة الاستعلاء وأطماع التوسع لا تزال بعيدة المنال. لسنا في وارد تقرير ما ينبغي أن تكون عليه إيران داخل حدودها، شرط ألا تكون تلك الخيارات على حساب حقوقنا وأمننا. ونتطلع إلى علاقات متكافئة، واحترام لمبادئ العدل والقانون، وشريعة الأمم. ولن نكل رغم ثقل التاريخ وإسقاطاته عن التطلع إلى تعاون مثمر بين أمتنا وبين كافة الشعوب المجاورة حين تختار السلام ولغة الحوار، بديلا عن لغة التهديد والقوة وفرض سياسة الأمر الواقع. وهكذا فإن عاصفة الحزم، هي دفاع عن النفس في مواجهة عدوان غاشم. وقد عملت المملكة جل جهدها على ألا نصل إلى حافة الحرب، فضلا عن الدخول فيها. استقبلت مختلف مكونات الشعب اليمني برحابة صدر، وتم التوصل إلى اتفاق مصالحة يضمن امن اليمن واستقراره، وتحقيق الانتقال السياسي بسلالة، على قاعدة المشاركة في السلطة. لكن استقرار اليمن لم يحلو لإيران ولا لأتباعها، كما لم يكن مقبولا للرئيس المخلوع، الذي قبل على مضض الانسحاب من المشهد، ليعود من خلال التحالف مع أعداء الأمس للانقضاض على مشروع المصالحة. ولتبدأ مرحلة جديدة من الفوضى والخراب، والاستيلاء على معظم المدن اليمنية، ومحاصرة الشرعية، وتهديد أمن المملكة، في خاصرتها الجنوبية، وتأمين استيلاء إيران على مضيق باب المندب، بما يهدد الملاحة في الخليج العربي والبحر الأحمر ويعطل قناة السويس. فكانت عاصفة الحزم، إعلانا واضحا بأن اليد التي تمتد إلى أمننا الوطني والقومي سيجري قطعها، وأن مشروع الزحف الإيراني نحو المنطقة، وتسعير النزعات الطائفية سوف يجري دحره إلى الأبد.