في فقه السياسة تتنازع "الحتمية" إلحاح "الضرورة"، ما يحيل الأخيرة أولوية لدى صنّاع القرار، أو كما يليق وصفهم ب "صنّاع المستقبل"، بيد أن توافق الاثنتين، في لحظة تاريخية، يعد استثناء نادر الحدوث، وهو ما "جادت" به – إن جاز الوصف – أزمات الإقليم، الذي بات في مخاض عسير، قد يكون يسيراً بتوافر رؤية ثاقبة تحلق من تحت الركام. "مأزوم" المشهد الكليّ للإقليم، ففي الشمال سوريا الغارقة بنظامها الدموي، وعلى حدودها العراق النازف بالطائفية، فيما تخيّم على واقعيهما رايات سوداء، تشي بأن الحزن سيمكث طويلاً في هذه البقاع؛ وإلى الجنوب، يقضي اليمن سعادة كانت مأمولة، على وقع مذبح فارسي، لم يعرف عنه التاريخ غير إفراطه وتفريطه بكل ما هو إنساني، فيما ترتكز فلسفته على دموية غير مسبوقة. ضرورة التشكيل على وقع هذا، وتزامناً مع "حتمية" أثخنها الانتظار الطويل، باتت ضرورة تشكيل قوة عربية - بالمعنى الواسع للقوة - قادرة على ضبط الإقليم، وتجذيب ما شذ منه، فقهاً وعملاً، قضيةً جوهرية، لها صدر الأولوية على غيرها؛ فإقليم تتجاذبه قوى ثلاث، إسرائيلية وإيرانية وتركية، لن يستقيم دون وازنٍ عربي، فاعلٍ ومؤثر، ليس إقليمياً فقط، بل دولياً أيضاً. حتمية الضرورة الملحة ولعل "عاصفة الحزم"، التي لن تهدأ من دون يمن عربي الجوهر والفحوى، تعد مؤشرا على الحتمية والضرورة الملحة لتشكل هذه القوة، وليس ببعيد ما تناقلته وسائل إعلام غربية بشأن عاصفة أخرى لاجتثاث دموية النظام في سورية. قوة تؤمن بالسلام كخيار أوحد في المنطقة، وقادرة على فرضه وحمايته، إن وجب هذا، بما يمكّن الشرعية من دولها، ويحيل تمدد القوى الإقليمية وأطماعها إلى غايات مستحيلة. "ثمة موجبات إقليمية ودولية"، يقول أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الهاشمية، والخبير في الصراعات د.جمال الشلبي، ل "ميلاد قوة عربية، في إطار مشروع نهضوي كبير، قادر على مواجهة التطرف، وكبح جماح قوى الإقليم، الباحثة عن هيمنة في منطقة تعاني فراغاً عميقا". ويرى د.الشلبي، الذي التقته "اليوم" في عمان، أن "المستقبل العربي برمته في خطر، وبالتالي لابد من مشروع نهوض عربي، ذي معالم واضحة، وبجوهر قادر على الدفاع عن مستقبل الإقليم والأمة معاً، عنوانه وجوهره السلام والحق بالغد". وإن قوة عربية تؤسس لمشروع نهضوي، يعيد الاعتبار لأمة، ظلت ذات زمن في الصدارة، هي ضرورة ملحة، وحتمية لتلك الأمة التي أسست حاضرة لا تزال راسخة في وجدان أبنائها. ب "نعم، هي حاجة ملحة"، يختصر المحلل والخبير في الشأن الإقليمي، راكان السعايدة، فكرة تشكل قوة عربية، ويقول: "أنّى صرفت نظرك فسترى أيدي غريبة تعبث بدولنا، في اليمن وسورية والعراق وليبيا ومصر والسودان وغيرها، وهذا يستدعي قوة عربية وازنة لمواجهته". ويضيف السعايدة، "هي في المحصلة أوطاننا التي حبانا الله إياها، وتطلب النجدة من تنازع قوى إقليمية وتنظيمات إرهابية على مناطق نفوذ لها، وبالتزامن مع فراغ المنطقة من قوة عربية قادرة على مواجهة التحديات". ويشير إلى أن "دولا عربية عديدة تعاني غياب القوة العربية الحاسمة للصراع الدائر على أراضيها، وهو صراع بات يهدد فرص استمرار وحدة هذه الدول". البيئة الإقليمية حاضرة في أعين شعوب المنطقة، التي ترقب الخوف المرافق ليومياتها، وتخشى مكوثه طويلاً، فتنشد مستقبلاً آمنا ومستقراً لدولها، فثمة صرخات مدوية من غير طرف في المنطقة، تكشف عن جراح عميقة لا بد من تطبيبها. ومن العراق، تتدافع آمال عضو مجلس النواب العراقي السابق د.كامل الدليمي، ويقول: "نحن في العراق أثخنتنا الجراح، بينما وطننا بات في مهب التقسيم". ويرى د.الدليمي، الذي يقيم في بؤرة العنف الدائر بالأنبار وهاتفته "اليوم" من عمان، أن "القوة العربية، بدلالاتها الواسعة، تطرقنا بإلحاح، فأوطاننا باتت تغرق بدمائنا، ولا سبيل للنجاة إلا بفاعل عربي مبادر، وقادر على حمل لواء الأمة". ثمة اشتراطات لمشروع القوة العربية، لعل أهمها المبادرة، والقدرة على المواصلة، وفق قول من استطلعتهم "اليوم" في العاصمة عمان، بينما أعينهم ترحل إلى المملكة العربية السعودية، باعتبارها صاحبة الأهلية، وبوصفها دولة وازنة بحكمتها، وقادرة بهيبتها، ونافذة بما حباها الله. "من غير السعودية؟"، يتساءل د.الدليمي، ويقول: "دول المنطقة المؤهلة لقيادة مبادرة من هذا النوع غارقة بأزماتها، باستثناء المملكة العربية السعودية، فهي القادرة على الإمساك بزمام المبادرة، والمضي بها قدماً، لانتشال الإقليم من مستنقع ندرك جميعاً عمق قعره". ويضيف الدليمي، أن "الاشتراطات كافة، لمبادرة بهذا الحجم، تتوافر في المملكة"، لافتا إلى اشتراطات "داخلية"، كالاستقرار والشرعية والموارد، وأخرى "إقليمية"، كالقبول الإقليمي والعلاقات الحسنة، وثالثة "دولية"، كالقدرة على التأثير في عواصم القرار الدولي. ويتفق مع هذا د.الشلبي، ويقول: إن "ما حل ببعض الدول الوازنة في الإقليم يحول دون قدرتها على هذا الدور، ويمنح الرياض موقع الصدارة في قيادة مشروع يمكّن الأمة من مواجهة تحدي القوى الإقليمية الناهضة، والساعية إلى التمدد في المنطقة العربية". ويؤكد د.جال الشلبي أن "السعودية دولة كبرى، وليست مجهرية، وهي الأكثر تأهلا لقيادة قوة عربية، ومشروع عربي"، مؤشراً على عدة عوامل داخلية وخارجية، تدفع الخبراء إلى النظر نحو تحرك سعودي باتجاه مشروع نهوض عربي. "العالم العربي منهك"، يجيب السعايدة حول الدول المؤهلة لقيادة قوة عربية، ولكن – يستدرك – "السعودية هي عنصر الجذب الأقوى، فهي الدولة الأقدر على الإطلاق في عقد تفاهمات مع دول الإقليم، ولا تعترضها تحفظات من أي نوع، وتحظى بقبول واسع لدى شعوب دول الإقليم، ويمكنها عقد تقاطعات مع الأطراف كافة، فضلاً عن حكمة قيادتها واستقرارها وثرواتها". وينبه السعايدة من "التسويات الكبرى"، على حد وصفه، التي قد يشهدها الإقليم، مبيناً أن "ميلاد القوة الآن بات ضرورة وحتمية لإعادة التوازن إلى الإقليم، الذي تتجاذبه القوى الناهضة، بينما الخيارات تنحصر في المملكة". ولكن، هل القوة العربية، دون غيرها، هي طوق النجاة للإقليم؟، هذا ما يجيب عليه د.جمال الشلبي بالقول، إن "مواجهة التحدي ليست المهمة الوحيدة لهذه القوة أو المشروع العربي". ويضيف: إن "المشروع العربي يجب عليه منافسة القوى الإقليمية الأخرى، إسرائيل وتركيا وإيران، عبر حالة نهوض عامة، تشترك بها الدول العربية، بما يعيد الاعتبار للمستقبل، المهدد بما يشهده الإقليم من صراعات دموية سيكون لجرحها أثر غائر في عقل الأمة الجمعي". ويرى د.الشلبي أن "مشروع النهوض العربي بحالجة لقوة تحميه، وتكرس قيمه في المنطقة، وتدافع عنه حال تعرض للخطر". وينسجم د.كامل الدليمي مع ما ذهب إليه د.الشلبي، ويضيف أن "النهوض من الكبوة، والنجاة من المستنقع، تستدعي القوة الأخلاقية، المؤمنة بقيم السلام والمستقبل الزاهر للأجيال المقبلة، وهذا لا يكون دون القدرة على حماية الغد والذود عن آمال الأمة وطموحاتها". ويؤكد الدليمي أن "ما يعانيه الإقليم في أحد أوجهه نتاج تدخلات القوى الإقليمية في مجريات الدول، ما يشي بضرورة تشكل قوة عربية رادعة، تحول دون التدخل في خيارات الشعوب وحرف بوصلتها عن أوطانها"، ضارباً مثالاً حياً على ذلك بما تشهده العراق من "تمدد إقليمي وهيمنة، أدت إلى تشكل بؤرة رئيسية للإرهاب، تتمثل في تنظيم داعش، فضلا عن الاختراقات الطائفية للوطنية العراقية". وإلى ذلك، يضيف السعايدة أن ما تشهده اليمن من صراع هو في "حقيقته نتاج أطماع إيران، ومسعاها الدؤوب للتدخل في دول الإقليم، وخلق حالات من الفوضى تهدد الشرعية في هذه الدول، بما يفضي أخيرا إلى دول موالية لمشروعها التوسعي". بيد أن الدعوة إلى قوة عربية – يقول السعايدة - لا تعني بحال انخراط الإقليم في حروب دامية، ففي السياسة إذا أردت السلام فاستعد للحرب، وهذا بيت القصيد. ذراع الأمة ولكن، ما الذي يعزز فرص نجاح تشكل قوة عربية، وبقيادة المملكة؟، يتفق المراقبون أن نجاح "عاصفة الحزم"، والانتصارات المتحققة في اليمن، ونجاحها في تحطيم الحلم الإيراني بتطويق دول الخليج العربي، سيزيد من ضرورة القوة العربية، وسيفتح الآفاق أمام آمال الإقليم بتحطيم مساعي الهيمنة وتبديد تحدياتها. ويقول د. كامل الدليمي: إن "القوة العربية ستكون ذراع الأمة، القادر على حماية مصالحها، سواء في اليمن، أو العراق وسورية، مروراً بمصر، ووصولاً إلى ليبيا، التي يتعرض النظام فيها إلى هزات عنيفة قد تبدد أحلام الليبيين بعودة الاستقرار إلى وطنهم". وبعين ثاقبة يؤشر د.جمال الشلبي إلى "إستراتيجية المملكة، في معالجة المشكلات والأزمات خارج حدودها، وبإجراءات استباقية"، معتبرا أنها "عامل إيجابي يعزز فرص نجاحها في المبادرة والمشروع النهضوي". وفي هذا السياق، يدعو السعايدة إلى تعريف القوة أولا، وتحديد جوهرها الإنساني، المؤمن بالسلام والاستقرار، ومن ثم تعريف العدو، وتحديد ماهيته، وآليات مواجهته، وتقديم هذا إلى الرأي العام العربي، ليحظى بتوافق الأنظمة السياسية والشعوب العربية ودعمها. وتظل الأمة صاحبة رسالة السلام، والسعودية حاملة رايتها، ولتكن القوة العربية بمبادرة المملكة لفرض السلام وحمايته في المنطقة، ولاستعادة الإقليم واستقراره.