أن تكون ألمانيا لما لألمانيا من تاريخ نازي سيئ السمعة، وتعترف بأنك خدمت لدى الجيش النازي، فقد كتبت على نفسك بالفناء المعنوي على أقل تقدير، فكيف بك وقد توافرت فيك الخصلتان السابقتان تهجو إسرائيل في قصيدة؟! كل تلك الظروف توافرت للكاتب الألماني الشهير، بل أبرز كتاب ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وإلى عقد ونصف العقد من القرن الواحد والعشرين. جونترا جراس، صاحب جائزة نوبل للآداب لسنة 1999م فارقنا يوم الاثنين الماضي، 13 أبريل عن عمر يناهز 87 عاماً. تعرفت على كتابات الكاتب الألماني جونترا جراس من خلال قصته القصيرة (قبو البصل) وكنت قد استعرتها منسوخة في منتصف التسعينيات الميلادية من أحد الأصدقاء، ومنذ ذلك الحين أصبح اسم جونترا جراس يثير اهتمامي كلما شاهدت له كتاباً أو خبراً في وسائل الإعلام. عُرِفَ الروائي جراس عن طريق روايته الأولى "طبل الصفيح" التي كتبها سنة 1959م وهو في عمر 31 سنة التي أصبحت جزءا من ثلاثية تسمى "ثلاثية جدانسك" نسبة إلى مسقط رأسه في بولندا وكان اتبعها برواية "القط والفأر" ثم "سنوات الكلب" 1963م بعد أربعين سنة من كتابتها أهدته روايته الأولى تلك التي قال عنها النقاد: إنها أظهرت الجانب المخفي من التاريخ وإنها ستبقى خالدة، جائزة نوبل للآداب. يوصف أي كاتب بأنه مشاكس إذا كان غير قابل للتدجين أو الترويض للمؤسسات الرسمية وغيرها، هذه إشكالية خالدة بين الكاتب المثقف من جهة ومجتمعه أو المؤسسات الرسمية من جهة أخرى. فالمؤسسة أو المجتمع يحاولان جعل المثقف راضياً عما يراه والتقليل بشتى السبل من حساسيته تجاه كل ما يمس القيم الإنسانية الخالدة. وعندما يمنح الكاتب جائزة بحجم جائزة نوبل فإنه يبقى متحاشياً أي شيء قد يعكر صفو مسيرته، لكن الكاتب الفقيد جونترا جراس كان مثال المثقف غير القابل للترويض أو التدجين. تمتع جراس بوعي سياسي بالإضافة لوعيه الثقافي فمارس السياسة، حيث انضم إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي، وناضل من أجل عدم بيع الأسلحة الألمانية لتركيا، لأنها تستخدم ضد الأكراد، ووقع ضمن أبرز الكتاب العالميين على بيان ضد انتهاك أمريكا الحريات الشخصية. لكن كل ذلك في كفة وقصيدته التي نشرها عام 2012م بعنوان (ما يجب أن يقال) منتقداً فيها نفاق الدول الغربية ومجاملتها إسرائيل رغم ما تمثله من خطر على السلم العالمي في الكفة المقابلة. كانت تلك القصيدة أكبر محك ودليل على مهمة الكاتب المثقف وعدم مهادنته التواطؤ والفساد اللذين يستشعرهما حوله من سلوكيات العالم. فقد هبت عليه عواصف الشجب والاستنكار ومحاولة التذكير بماضيه النازي وأعلنت إسرائيل انه شخص غير مرغوب فيه، وتولت دوائر الصهيونية العالمية في أوروبا التضييق عليه وتشويه سمعته، والطلب بسحب جائزة نوبل منه، ومع ذلك لم يعتذر جونترا جراس عن سلوكه وظل صامداً أمام كل تلك العواصف. رحل جراس وقد خلف من الإرث الأدبي الإنساني الكثير، لكن أهم مآثره في نظري هو ما خلفه من مواقف في وجه الفساد والظلم العالمي. * كاتب وروائي