طفلتي الصغيرة كانت تنشد بجواري أنشودة ليست من أناشيد الأطفال التي اعتدتها منها، فطلبت منها أن تعيدها وإذا بها تنشد بلحن جميل : ( حبيبي شرب شاهي بنعناع وأنا شاهي أحمر شربوني ) ! وسألتها: أين وجدتها فدلتني عليها في اليوتيوب وأخبرتني أن عدداً كثيراً من الأطفال يحفظونها، وذهلت من عدد المشاهدات المليونية لهذه "الشيلة" وهي في طريقها للوصول لعشرة ملايين مشاهدة، وركاكة الكلمات لم تؤثر على هذه "الشيلة" في الانتشار الكبير لأن اللحن والصوت غطَاها بردائهما. "الشيلات" هي البطل الأبرز في الدعم المعنوي لعاصفة الحزم، ويتداول الناس الآن عشرات "الشيلات" التي كتبت خصيصاً لهذه الحرب، وحتى القنوات التي كانت تبث فقط الأغاني الوطنية في مثل هذه المناسبات بدأت في بث "شيلات" لعاصفة الحزم تسندها صور الملك سلمان والطائرات العسكرية ، وقبل أيام تواصلت مع أحد الطيارين السعوديين المشاركين في عاصفة الحزم وسألته عن المعنويات، فأجابني : ( المعنويات فوق، والشباب يسمعون هالشيلات بحماس ). "الشيلة" فن شعبي موروث في الجزيرة العربية، وكان الناس قديماً ينشدونه على ظهور الإبل ويقول أحدهم للآخر : ( شيل يا شيال ) ، لكنها كانت محدودة في تداول مجتمع محدود خاصة بين المهتمين بالشعر الشعبي، وفي بعض البيئات القبلية ، وما نراه اليوم أن فن "الشيلات" يعيش طفرة كبيرة استطاع من خلالها تجاوز ذلك المحيط والوصول للثقافة الحضرية، والامتداد لشرائح لا تهتم بالشعر الشعبي ولا تستهويه، واستطاع أن يخطف شريحة كبيرة من المحبين للغناء وكذلك المستمعين للنشيد. بل وصلت حتى للأطفال والصغار ، وعند محطات الوقود على الطرقات السعودية في السعودية ستجد الصوت الأعلى في المبيعات لهذه الشيلات. "الشيلة" مدرسة صوتية تختلف عن الإنشاد التقليدي وتبتعد عن الغناء المعتاد ، وكثير من المنشدين دخلوا في هذا المجال وقلة من المغنين تعاملوا معه، وهو فن يبتعد عن الآلات الموسيقية ويكتفي بالدف والإيقاعات غير الموسيقية، وهذا وسع دائرة انتشاره لأنه لا يصطدم بفتوى التحريم السائدة للأغاني ، واستفاد من مساحة الخلاف غير الحاد حول الدف. لذلك لا تستغرب أن يكون الدكتور المتخصص في الدراسات الشرعية والاقتصاد الإسلامي فهد مطر من رموز المنشدين الأشهر في "الشيلات". "الشيلات" قدمت خدمة ترويجية عظيمة للقصيدة الشعبية، وكل الوسائل القديمة لنشر القصيدة في الصحف والمجلات والدواوين والأمسيات لا يمكن أن تقارن بقوة "الشيلة" على النشر والترويج، خاصة مع وجود جمهور يسمع ولا يقرأ ، ومتشبث ببرامج الواتس أب واليوتيوب في إشباع نهمه الصوتي. والقصيدة التي يدعمها منشد شيلة بلحن جميل ويتلقاها الناس بالقبول في برامج التواصل الاجتماعي نقول عنها : ( عدت ). مهرجان مزايين الإبل في أم رقيبة كان له دور محوري في دعم فن "الشيلات" وكان القبائل وأصحاب الإبل يدفعون بسخاء لهذه الشيلات، وقرأت تقريراً سابقاً في موقع قناة العربية ينقل عن أحد منشدي الشيلات أنه يصل دخل بعضهم إلى أكثر من مليوني ريال في أيام المهرجان. فأم رقيبة تعتبر الموسم الأهم لأبطال "الشيلات" وبعضهم حمل انتقادات كبيرة على رواد "الشيلة" لأنها تثير النعرات القبلية، والشاعر عواض شاهر وصف هذه "الشيلات" بأنها بوق قبلي، وهذا تعبير يقرأ من خلاله أن مدح القبيلة وتعظيم شيوخها وصل لدرجة مستفزة حسب عواض ومن يتفق معه. لا أعلم هل هذه الطفرة للشيلات هي طفرة مؤقتة، أم تغير بعيد المدى في المزاج العام، وكل ما أتمناه أن يكون بجانبك كوب من الشاهي الساخن المُطعم بالنعناع وأنت تقرأ مقالتي هذه.