«مصيدة الحواس» ديوان شعر صدر مؤخراً للشاعر الأردني نضال برقان عن (دار الأزمنة) للنشر والتوزيع بعمان/ الأردن. وهو الديوان الثاني للشاعر بعد صدور ديوانه الأول الموسوم ب(مصاطب الذاكرة) سنة 1999م عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر). ويأتي هذا الديوان -حقيقة- كإضافة جديدة وغير مسبوقة لمكتبة شعرنا العربي في أحدث صوره ونماذجه التي لامست قلوبنا ومشاعرنا بلغة شعرية جديدة وحديثة ومبتكرة (عصرنت) الخطاب التقليدي لشعرنا العربي ورتابته المملة وإيقاعيته المستهلكة في معظم نماذجه المتأخرة في الوقت الحاضر؛ ليكون أكثر ألقاً وتوهجاً وجدة وطرافة، وليعيد ترتيب أبجديات الشعرية العربية في ذهنية المتلقي العربي من جديد حيثما كان، بعد أن كادت تُطمس وتفقد المعنى الحقيقي لها، مما يعني لنا -بالتالي- أن الشعر ما زال بخير، مادام أن شاعراً متألقاً ومتميزاً ك(نضال برقان) استطاع بلغته الرقيقة والأنيقة والراقية، وبحسه الشعري الدقيق أن يستأنس توحش المفردة الشعرية، ونفورها من ضوضائنا وشرودها من ضجيج عصرنا، وجلبته المحيطة بنا؛ ليمكِّنَنا في نهاية المطاف من ترويضها واستئناسها بنا واستئناسنا بها، بعد أن برع في اصطيادها لنا في (مصيدة الحواس). برقان شاعر مجتهد، يختلف عن كثير من الشعراء الذين عرفناهم أو سمعناهم أو قرأنا لهم، بل إنه قد قدم نفسه لقارئه بطريقة مختلفة تماماً عن تلك الطرق (التقليدية) أو المكررة التي اعتاد شعراؤنا في الوقت الحاضر أن يُقدِّموا بها أنفسهم للناس مثل: (كتابة مقدمة) مصحوبة بسيرة ذاتية لهم، أو إيراد بعضهم لبيت أو بضعة أبيات كفاتحة لديوانه أو عبارة على (صفحة الإهداء) ممهورة بتوقيعه، وما شابه ذلك. أَما (برقان) هنا فقد تنحى عن مثل هذه المظاهر التقليدية وعاديتها المرتجلة، وأفسح المجال للشعر كي يقدمه للناس عبر (مقدمة شعرية) طويلة عنونها ب(حجر عمان) جاء من ضمنها قوله: وُلِدَ الترابُ على يدي، وُلِدَ الكَلامُ على لساني منذُ بدءٍ غابرٍ. اليوم يومي كُلهُ، وغَدٌ غدي، ما كان شَكَّلني سواي، أَنا أَنا لَمَّا أُشابِه غير ذاتي لحظةً، عَبَّأتني بالضوءِ، عَبَّأت الشموس بما يناسبها من الإيقاع حتى لا تطلّ سوى ملامحها عليها من مراياها صباحاً، ثم آخيتُ الخليقةَ مع طبيعتها وآخيتُ المجرة. (1) كَمْ أَذهلني هذا الشاعر بتدفق لغته وعذوبتها وتراسلها وبنفسه الشعري الطويل الذي يبحر بمن يقرؤه بقارب سحري إلى حيث أعماق الكلمة الشعرية وسبر أغوارها، واكتشاف أسرارها البعيدة كل البعد عن السطحية والارتجالية والعادية والتلقائية المباشرة وضحالتها وركاكتها واستهلاكها!!!. ففي نص تحت عنوان (سماء خضراء) يأتي قوله: يحومُ فراشُ التذكر حول فنارات روحِكِ يعرفُكِ البحرُ تعرفُكِ الطرقاتُ ويكتَشِفُ الرَّملُ همْسَ قواقعهِ كُلَّما تحلمينْ أَنا ابن صُراخِكِ... يا ابنة صمتي أنا ابنُكِ يا طفلةً كنت أُنْجِبُها. (2) إن هذه (البرزخية) المخيفة بين الألم الصارخ (أنا ابن صراخك) وبين الصمت المتبلد المطبق (يا ابنة صمتي) هي ما جعلت للصورة الشعرية هنا جدتها وطرافتها، وتفردها بأسلوب يحسن وضع الأشياء في أماكنها المناسبة والصحيحة التي تليق بذائقتنا -نحن كقراء- نتذوق المعنى الحقيقي للشعر ونقدره بحجم تأثيره فينا، كلما تولدت لنا من لغته معانٍ جديدة لمفردات كنا نظنها عقيمة وجرداء وجافة. ويجدر أن أُشير قبيل اختتام حديثي عن هذا الديوان وشاعره إلى ميزة انفرد بها عن الكثير من الشعراء سواه، ألا وهي اضطلاعه وتمكنه من كتابة ما يعرف لدى نقاد الشعر العربي الحديث، والمهتمين به ب(القصيدة المدورة). وهذا المصطلح الشعري يعني -ببساطة- محاولة أو إصرار الشاعر على ضرورة استيفاء الصورة الشعرية كاملة بأكبر عدد ممكن من (التفعيلات) في البيت الواحد من القصيدة (التفعيلية) القائمة أساساً في هيكلها الخارجي على عدد (التفعيلات)، مهما قلَّت أو كثرت في السطر الواحد، وليس على العدد الثابت للتفعيلات نفسها كما هو الحال في (القصيدة العمودية) ذات الشطرين. ولا أجد ما يشبهه في هذا الجانب من الشعراء العرب في الوقت الراهن سوى قلة قليلة جداً لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، يأتي على رأسهم الشاعر العراقي الكبير حسب الشيخ جعفر. ومن النصوص (المدورة) التي حفل بها الديوان نذكر: (صباح برائحة اليقين) و(وجوه خضراء في مرآة ميتة) و(وجه تيسير سبول) و(وجه النورس) وغيرها. هوامش: (1) الديوان، ص13، ص14 (2) الديوان، ص68